عبثا تحاول إيران إيجاد نافذة لها للفرار من الأجل المحتوم، لكنها تخفق أمس واليوم وغداً، ولا تدري أن الهروب إلى الأمام لا يفيد، وأن التهور الاستراتيجي لا يحسن موقفها التفاوضي، بل يجعل الحبل يشتد من حول رقبتها.
أكثر من مشهد ساخن جرت به الأحداث في الأيام القليلة الماضية يؤشر إلى أن إيران مضطربة إلى حد التناقض، وأن روحها قلقة وحائرة، وربما هذا ما جعل روحاني يصرح قبل بضعة أيام بأن بلاده مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة ضمن إطار متعدد الأطراف، إذا رفعت واشنطن العقوبات التي أعادت فرضها عليها.
يخيل إلى الإيرانيين أن ذاكرة الأميركيين مثل ذاكرة الأسماك، وأن إدارة دونالد ترمب سوف تبتلع الطعم الذي تلقفته من قبل إدارة باراك أوباما، وتنسى أو تتناسى أن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين، وأن ساكن البيت الأبيض غير مخترق أيديولوجيا من جماعات راديكالية كما الحال مع سلفه.
يوما تلو الآخر يصحو العالم على الخديعة الإيرانية المستمرة والمستقرة، وأقرب المخدوعين في واقع الأمر هم الأوربيون أولئك الذين جهدوا أنفسهم لتقديم مسار مالي لإيران يخفف عنها عبء الضغط الأقصى الأميركي، غير أنه تاليا تكشفت لهم بعض من نوايا إيران الحقيقية المتمثلة في البرامج الصاروخية التي أنشأت لها طهران قاعدة صناعية في الداخل العراقي، عطفا على الصواريخ التي تم تسريبها إلى بغداد ومدن عراقية مختلفة، وذلك انتظارا لأوامر الملالي لإشعال المنطقة عند نقطة بعينها، ما يجعل الأوربيين في مأزق حقيقي أمام العم سام بنوع خاص، وأمام حلفائهم من العرب في الخليج والشرق الأوسط بشكل عام.
الحقيقة التي لا جدوى من إنكارها هي أن إيران وقعت في الفخ، فخ الغرور والغطرسة الذي قادها إلى فخ اقتصادي قاتل سوف يستجلب عليها الوبال، ففي ظل التضخم الحادث ليس أمامها إلا الدوران في دائرة داخلية مفرغة سوف تزيد من الصراع الداخلي عبر تضييق مساقات الحياة أكثر واكثر، لا سيما من الناحية الاقتصادية على مواطنيها، وساعتها لن تفلح من جديد عصى الحرس الثوري التي تمارس نوعا من الإرهاب المعلن على الملا ضد المعترضين.
تلفت صحيفة “الوول ستريت جورنال” قبل بضعة أيام الانتباه إلى ما كشفته الاستخبارات المالية الأميركية من أن الحكومة الإيرانية تعاني أزمة في احتياطي النقد الأجنبي، وهو مؤشر حاسم على قدرة البلاد على السيطرة على القوى الاقتصادية، وعلى استيراد المعدات والإمدادات.
هذا النقص في النقد الأجنبي، بالإضافة إلى انخفاض صادرات النفط والتي تسعى واشنطن إلى تصفيرها، مع تزايد العجز التجاري، يضع إيران في ضائقة اقتصادية أكبر مما كانت عليه في 2013، أي قبل التوصل إلى الاتفاق سيئ السمعة عام 2015 مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبلغة الأرقام فإن صندوق النقد الدولي يقدر احتياطات إيران من العملات الأجنبية في حدود 86 مليار دولار، أي أقل بـ 20% عما كانت تحوزه في 2013، حين اجبرها وضعها آنذاك على قبول التفاوض.
لكن علامة الاستفهام الآنية: هل يتجرع خامنئ كأس السم التي شربها من قبله الخميني المؤسس، ويقبل الرضوخ لشروط بومبيو الاثني عشر أو بعضها الأهم على أقل تقدير؟
الشاهد أنه لا يبدو ذلك كذلك، بل يكاد المراقب للشأن الايراني أن يدرك أن فكرة الهروب إلى المجهول، وإشعال المنطقة برمتها هو السيناريو الأقرب إلى الواقع في لحظة يأس إيرانية، أو انفلات الأعصاب ذات مرة من الجانب الأميركي.
نهار الأربعاء الفائت كانت واشنطن تتحدث عن وجود أدلة جديدة تشير إلى تهريب إيران أسلحة وقوات جديدة إلى الشرق الأوسط، بشكل ينذر بتخطيط ايراني لشن هجمات محتملة في القريب العاجل.
الكارثة هنا أن المسؤول عن شن تلك الهجمات لا يبدو ظاهرا بوضوح على شاشة الأحداث، وهل هو الحرس الثوري أم الحكومة المركزية، وقد يكون الأمر نوعا من التعمية المقصودة حتى لا يتحمل أحد رسميا عبء الجرائم الإرهابية القائمة والقادمة على حد سواء.
لا تنطق الاستخبارات الأميركية بأجهزتها المختلفة عن الهوى، فما لديها من وسائل تنصت واستشعار برا وبحر وجوا تمكنها من تقدير الموقف الاستشرافي برؤية قريبة من الواقع، وربما هذا ما أدى لإشارة رئيس العمليات العسكرية الأميركة في الشرق الأوسط مؤخرا الجنرال كينيث ماكينزي، وعلى هامش منتدى المنامة، إلى تأكيد اعتقاد بلاده بأن إيران ستقدم على عمل ما ردا على العقوبات والضغوطات الأميركية الحالية.
السؤال الأكثر إثارة: ماذا لو مضت إدارة الرئيس ترمب في توقيع المزيد من العقوبات على حكومة طهران؟
الذين استمعوا إلى تصريحان برايان هوك المبعوث الأميركي المنوط به الشأن الإيراني مساء الخميس بتوقيت الشرق الأوسط، وقر لديهم أن عقوبات أميركية أخرى قادمة في الطريق، وستكون الأقصى والأقسى في ذات الوقت، ما سيجعل الملالي يفقدون صوابهم مرة وإلى حد لا يعلم أحد حدوده.
في هذا السياق، كانت مجلة بوليتيكو الأميركية تفرد صفحات عددها الأخير لأنباء عزم الحكومة الأميركية دعم احتجاجات الشعب الإيراني بعدة طرق، أبرزها رفع الحظر على الإنترنت، وتصعيد الحملة الإعلامية المساندة للشعب الإيراني.
يؤمن الأميركيون بأن الاحتجاجات الشبابية الإيرانية الأخيرة علامة على نجاعة حملة الضغط القصوى المشددة ضد إيران، الأمر الذي دعا الإيرانيين العاديين، غير المسيسين أو المؤدلجين للخروج إلى الشارع الإيراني، ولهذا يجري التفكير أميركيا حول كيفية دعمهم وإن بطريق لا يزيد من معاناتهم، وإلا تحولوا عنهم إلى الجانب الإيراني الرسمي، الذي سيعتبر الأمر مواجهة تقليدية مع الامبريالية الأميركية بحسب لغة الملالي.
الخوف والمجهول يمكن التنبؤ بهما من خلال جزئية اقتصادية أولية وهي أن إيران إذا أرادت وقف التضخم وارتفاع الأسعار القاتل لرجل الشارع العادي، فإن ذلك يحتم عليها أن تحرق مزيدا من احتياطياتها النقدية المتدهورة، الأمر الذي سيعرضها مرة أخرى إلى انهيار كلي وليس جزئيا، ولهذا ربما اتخذت قرارا متهورا بعملية شمشونية في محاولة لتحسين موقفها التفاوضي، غير أنه يفوتها أن المعبد سينهار أول الأمر وآخره على رأسها، قبل أن يصاب أحد آخر بأذى في الحال أو الاستقبال.