د/ مروان الغفوري
كل المعارك التي انتصر فيها الجيش اليمني كان المهزومون يمنيين.
ومنذ السنوات الأولى لتأسيس الجيش اليمني كان جيشاً مزيفاً، ثم صار أكاديمية احترافية في صناعة الإنحطاط.
وعلى مشارف نهاية القرن الفائت كانت كل التقارير الجادة تذكر خلسة كيف حال الجيش اليمني دون ظهورالدولة الحديثة.
وصنعاء تسقط اختبأ ستون ألف عسكرياً وراء جدران إسمنتية وقاتل 500 جندياً.
قاتلوا وانهزموا،
فالإله يقف دائماً مع المدفعية، كما يقول نابليون.
وعندما كانت الميليشيات والعصابات تحرق عدن في الخامس والعشرين من مارس 2015 كان كبار الجنرالات يشتركون في الجريمة باستثناء ضباط ثلاثة.
وقبل أن تحرق الميليشيا والعصابات صنعاء كانت قد أحرقت عمران.
وفي عمران قاوم ضابط عسكري بجنوده ضد البربرية الدينية المتوحّشة فدل عليه كبار ضباط الجيش، وكشفوا مكانه.
ولما صلبته الميليشيا الدينية أصدرضباط الجيش تعميماً بمنع إصدار أي بيان عزاء.
وقال القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكان اسمه آنذاك المشير هادي، إنه مجرّد قائد واحد ولاداعي لعمل مناحة.
أما وزير الدفاع، وكان اسمه اللواء محمد ناصر، فحضر إلى مجلس الوزراء وروى قصة مقتل رفيقه في الجيش على أيدي الميليشيا. وكانت روايته تختلف عن الحقيقة كلّياً.
وداعاً للجيش اليمني.
كنتُ صغيراً مولّعاً بالصحف. وكان أبي يصرّ على أن أصبح صحفيّاً عندما أكبر. وقد أسرّ إلي برغبته منذ كنتُ في سادس ابتدائي، ثم حشا رأسي بالجرائد.
ومنذ وقعتْ أول جريدة في يدي وحتى الأبد ويوم، وحتى الأبد ويومين، وحتى الأبد وخلافه وأنا أقرأ هذه الجملة “ضابط عسكري كبير يعتدي على”.
وما إن بدا الحرس الجمهوري في الظهور إلى المشهد وملأ الفراغ حتى صارت الجملة أكثر جلالاً وهيبة
“قائد عسكري كبير في الحرس الجمهوري ينهب أرضية فلان”.
وكانت تلك الجملة كفيلة بإدخال الرعب إلى قلبي. وكبرت وأنا أعلم أنه ليس مثل الحرس الجمهوري شيء، فبمقدورهم أن ينهبوا أي أرضية.
وصار لدينا جيش يمني يحضر الاحتفالات وينهب الأراضي، وينشر الخوف.
ولم يحدث سوى في أفريقيا جنوب الصحراء أن جيشاً وطنياً ألحق به كل ذلك العار.
وعندما افتتح صالح مشروع بلحاف وقف مبتسماً وبشّر الحاضرين “اللي فات كان بروفا” يقصد هزائم الجيش أمام الميليشيا الدينية الحوثية.
أما ما بعد البروفا فكان يقصد تدخّل الطيران السعودي.
وذهب يتباهى بالطيران السعودي قبل أن يطلب منه أمرين غريبين.
فبحسب وثائق ويكيليكس كان الحرس الجمهوري يزود الطيران السعودي بمراكز قيادات الفرقة لأولى مدرّعة قائلاً إنها تجمعات حوثية.
وعندما صارت إصابات السعودية أكثر دقة بعد الاستعانة بالأقمار الاصطناعية الفرنسية ـ راجع وثائق ويكيليكس ـ
ذهب صالح يطلب من السعوديين التوقف!وهاتف العميد جواس غاضباً فدار بين الرجلين حوار يعرفه غالبية ضباط الجيش الكبار.
صالح: دلا دلا على الحوثيين
جوّاس: يقتلوا الأفراد يا فندم.
صالح: ليش والأفراد عيالك
جواس: وليش وأنت الحوثيين عيالك.
وداعاً للجيش اليمني.
كان ينهب أكثر من 40% من موازنة الجمهورية اليمنية الفقيرة، وهو ما جعل إمكانية خروج الدولة الفقيرة من ورطتها أمراً بعيد المنال.
ولم يكن ينتج شيئاً، ثم صار مع الأيام جيش يعمل في التهريب.
واشتعلت حرب صامتة بين وزير داخلية صالح، المصري، وضباط خفر السواحل حول نسبة ما سيحصل عليه ضباط الداخلية من مردود تأجير قوارب خفر السواحل للسفن الدولية!
وأصبح الجيش اليمني عاراً متجوّلاً،
ثم صار بندقية للإيجار.
ولكنه تماسك في السنوات العشرين الأخيرة وعرف طريق التهريب، وأصبح يبيع النفط في سواحل جيبوتي وفي أعالي البحار.
ولم تتبق سوى خطيئة واحدة لم يرتكبها:
أن تلقي عليه السعودية القبض متسللاً في زي مقوّت على الحدود.
وداعاً للجيش اليمني.
ليس صحيحاً إنه لم يكسب معركة. فالصحيح إنه لم يعرف قط الطريق إلى الحرب.
وبدلاً عن حراسة الحدود مكث الجيش اليمني كله على جبل نقم، وخزّن.
وما إن قرّرت الميليشا اقتحام العاصمة وتقويض الدولة حتى تذكر ضباط الجيش كل شيء إلا اليمن.
تذكروا المذهب والإمام والكتب المقدسة وأرباب النعمة والتاريخ وأحلام التفوق العنصري، ونسوا المستقبل.
ها نحن الآن أمام مشهد رهيب: فقد انتصرت ميليشيا على الشعب. ميليشيا كانت، وستبقى، ترفض أي عملية استفتاء على مشروعيتها لسبب بسيط. وهو أنها لا تمثل سوى نفسها.
انتصرت الميليشيا وانهزمنا.
ودائماً كانت جحافل الميليشيا تنتصر على المجتمع المدني. ففي القرون الوسطى دخلت ميليشيا تيموجين التي لا تجيد القراءة وحاصرت بكين بضعة أشهر ثم اقتحمت أسوارها وقتلت منها 300 ألفاً!
ودمّرت الحياة، وقوضت السوق والعدالة والإبداع.
وجد الجيش الوطني ليحمي الشعب من الغزاة ومن هيمنة الميليشيات. وفي اليمن لم يكن الجيش سوى عصابة موازية. استطاعت هذه العصابة أن تجري اتفاقاً ما مع الميليشيا الدينية حول النفوذ والسلطة ودخل الجيش اليمني في حتميته التاريخية.
فبعد أن عمل في التهريب وباع قوارب خفر السواحل للسفن التجارية في أعالي البحار عاد وباع المدن والدولة.
يوجد في الجيش اليمني ضباط كبار وطنيون ومثقفون مثل الضابط جوّاس. وهؤلاء ليس سوى مطاريد في عرف الجيش، وسينالون عقابهم الصارِم. في الجيش اليمني لا يمكنك أن تعِبر عن مواقفك الأخلاقية المبدئية ولا أن تستمع إلى المجتمع المدني. في الجيش اليمني أنت مملوك بالكلّية لبارونات يعملون في كل الأشياء القذرة التي تتراكم مع الأيام وتحول دون الانتقال إلى الدولة الحديثة.
وعندما سألت ضابطاً عسكرياً البارحة “هل أصبح كل الجيش في الشمال في حوزة الحوثي” قال كلا، فهناك ضباط رائعون ومحترمون لا يجرؤون حتى على القول إنهم محترمون.
الجيش اليمني كان هو المسؤول بصورة مباشرةعن سقوط اليمن حتى قاع العالم.
أنا، وقد أصبحت طبيباً، جلستُ لأول مرّة على كرسي دراسي عندما كنت في ثانية ثانوية. وعلى مدار 10 أعوام في المدرسة لم أعرِف كرسي قط. وكان حتى صغار الضباط يبنون قلاعاً.
وكانت المدارس تنهار. وكان الضباط يصعدون.
وكان الطلبة يتركون المدارس ويعملون في الحراج أو التهريب، وكان الضباط يستوردون المزيد من السيارات، وكان الطلبة يصابون بروماتيزم القلب بسبب التلوث ”
دراسة 1998: 20% من طلبة المدراس في صنعاء مصابون بآثار روماتيزمية في صمامات القلب” وكان الضباط يحصلون على مزيد من الأراضي والامتيازات.
وعندما كبرنا صرنا نخاف أكثر وكانوا أكثر شعوراً بالأمان.
وقبل عشرة أعوام اعتقل ضباط الجيش رجلاً اسمه أبو راشد، أردني من أصل يمني، في فندق في صنعاء لأشهر طويلة لأنه استورد معدات لزراعة القمح في أبين / لحج دون الرجوع إلى ضباط الجيش.
وخسر الرجل، كما يقول محاميه، أكثر من 300 مليون دولاراً كان خصصها كدفعة أولى.
وقد سمعت هذه القصة بحضرة وزير سابق، 2006، وسمعتُ الوزير السابق، وكان برلمانياً، يقول له كل ما أستطيع أن أفعله لك مجرّد بيان.
الجيش اليمني هو النقطة السوداء في تاريخ الأمة اليمنية وهو عارها العظيم، وهو أكثر ما يؤلمها، وهو أكثر ما يخيفها، وهو الذي يخذلها في الأوقات الحاسمة، وهو الذي لا يسمع صوتها بالمرّة، وهو أكثر جيش في العالم قتل يمنيين!
ليس عفاش سوى ضابط كبير في الجيش، في الأساس.
ولم يكُن هادي سوى قائد عسكري كبير. الرجلان هما أسوأ ما حل باليمن في السنوات الأخيرة، وليس ذلك لأن والديهما سيئان بل لأنهما من الجيش اليمني.
ولو أتيحت لنا فرصة أن نرى ضابطين آخرين من الجيش اليمني في الواجهة مطرح هذين التعيسين فسيعرِبان عن سوء عظيم لا يقل عن هادي وصالح.
ذلك أن مؤسسة الجيش اليمني تعمل كمدبغة جلود، مهمّتها غسل فطرة الضابط الصغير وخلق إمكانات ضالة بداخله.
وعندما دخل الجيش اليمني عدن في 1994 رأى الناس في وضح النهار حقيقة الجيش، ذلك الذي ينهب محلات الفقراء قبل أن يكمل قراءة النشيد الوطني.
وهل تعلمون أن الكلية الحربية أجرت امتحاناً تجريبياً قبل عامين على ضباط الكلية، الطلبة، فوجدت أن 95% لا يحفظون النشيد الوطني.
ولأني قلتُ لكم شيئاً عن مدبغة الجلود فمن المناسب أن تتذكروا أيها اليمنيّون هذه القصة:
أبلغ أهل تعِز في الخمسينات الإمام أحمد حميد الدين بشكوى تقول إن مدرسة الأشرفية، وكانت منارة علم في تعز على مر الأزمان، تعاني من تصدعات وتقادم بها السن.
قرأ الإمام احمد الذي يصل نسبه إلى علي بن أبي طالب تلك الرسالة وأمر ببناء مدبغة جلود جوارالمدرسة، فصار الطلاب لا يستحملون البقاء فيها.
هكذا قال المؤرخ الأكوع. والإمام أحمد هو القدوة الحسنة لعبد الملك الحوثي، وهو جدّه، وهو مكتوب عنده في الكتاب.وبقيت ظاهرة جديرة بالمشاهدة، فقد كان شمال اليمن ينتج قادة عسكريين شديدي الانحطاط، ما جعل الجيش اليمني منحطاً بامتياز،
بينما انفرد الجنوب بإنتاج قادة عسكريين شديدي النّبل والوطنية. ولا بد أن توضع هذه الملاحظة جوار تلك التي تقول إن جزءاً من النكبة التي نعيشها صنعها في الأساس ضابطان من الجنوب “هادي ومحمد ناصر”.
ولم يكن صالح منحطاً كضابط وحسب، ولا حتى وفقاً للرواية التي سمعتها من أحد حراسه الكبار، وكان يتلقى العلاج لدى زميل يعمل بروف. في الجامعة ”
قال الضابط:
رأيت صالح في القصر ينخش جِحْر سياسي كبير((مؤخرته)) وكان السياسي الكبير يكركر ويقول هئ هئ خلاص يا فندم خلاص يا فندم”،
لم يكن منحطاً لأنه مشطور الذهن عاش طفولة مشتتة فشتت اليمن على طريقة طفولته، كما تقول الباحثة الأميريكية فايسباخ،
بل كان منحطاً لأنه خرج في الأساس من مصنع الانحطاط اليمني المعاصر: الجيش.
أخبروني متى حدث مثل هذا من قبل؟
تحتل ميليشيا العاصمة والمحافظات وتخوض حرباً مع المواطنين فيذهب الجيش إليها ويقدّم لها خدماته.
أخبروني كيف انتقل الجيش من صنعاء إلى عدن؟ من أعطاه الأوامر؟ يتبع من؟ كيف اتخذ قراراً بشن حرب أهلية داخلية بلا قيادة، ولا مرجعية سياسية، ولا برلمان، ولا حكومة؟
كيف يتلقى جيش كبير قوامه 500 ألف مقاتل أوامراً من شيخ دين!
منذ متى والجيوش تعمل في خدمة الكنيسة؟
ما هي صفة الجيش الذي يعمل مع الشيخ، وينفذ مهاماً مرعبة على شاكلة حرب أهلية استجابة لرغبة شيخ دين؟
ما الفرق بين الجيش والميليشيا إذن؟
قلتُ لضابط عسكري، عضو فريق الدفاع والأمن في الحوار الوطني، ما هو الجيش اليمني؟ فأخذجرعة من الماء وقال لي:
54 ضابطاً من حضرموت، منذ 1994، و170 من إقليم سبأ، و17 ألف ضابطاً من ذمار.
قلتُ له وماذا أيضاً؟
قال: ألوية من عشرة آلاف جندياً يوجد بها راجمة كاتيوشا واحدة.
وألوية من 2000 جندياً بها 200 دبابة. كان الجيش يتعرّض للتخريب،
بالطبع، على يد ضباط الجيش.
أما وقد صار في يد الميليشيا كلّها فها هو قدصار “حرس المعبد”.
صار لدينا جيشاً شبيهاً بحرّاس مالطا، جماعة لا تعرف الإله لكنها تخدم بإخلاص عياله على الأرض.
أعرف جيّداً أن هناك ضباطاً وأفراداً في الجيش ستؤلمهم كثيراً هذه الرسالة. كل من سيشعر بالألم فهو رجل حُر وهذه الرسالة لا تعنيه، وهناك استثناء.
وداخل الجيش، مؤسسة الانحطاطالعظيم، هناك استثناءات كثيرة. هذه الرسالة موجهة لأولئك الذين سيشعرون بالغضب، لا بالألم.لأولئك الذين سيقولون بكبرياء “هزمناكم” وسأقول لهم مبروك أيها الضابط العظيم يا من تملك الدبابة والطائرة والصواريخ لقد انتصرت على طبيبك ومدرّسك، وياله من نصر.
وداعاً للجيش اليمني، حتى الأبد ويوم.
العار لك أيها الجيش، العار والخزي على مرّ الأيام.
وبجوار السيد عبد الملك ستعيش وستنفَق مثل كل الآفات.
سنبقى نحن أيها الجيش، لأنك هبطت إلى مستوى عصابة، والعصابات لا تخلد.
سنكتب عنك أنك كنت البقعة السوداء في حياتنا،
ثم صرت ثقباً أسودَ، ومع الأيام جعلت كل شيء من حولك أسود، حتى النشيد الوطني وصوت المغني.
وسنكتب للتاريخ عن سيدك عبد الملك الحوثي”
اسمُه غير مُهم، والكهف الذي ولد فيه وسيموت فيه يوجد بالقرب من الجبل”.
وهكذا ستختفيان في التاريخ.
وداعاً للجيش اليمني الذي لم يكن جيشاً قط.