يمن واحد وموحّد لم يكن خياراً من قبل منذ استنهاض يحيى حميد الدين تاريخ القاسميين، ورفضه المعاهدة الأنغلو عثمانية بترسيم الحدود بين الشمال والجنوب عام 1915، وقصفه للإنجليز في عدن، وهو ما استمر حتى بعد ثورة الدستور اليمنية في 17 فبراير (شباط) 1948، ثم دخول اليمن في معترك الصراع الإقليمي، واستقطاب عبد الناصر وتدخل الجيش المصري بعد ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962، ووقوف السعودية وبريطانيا مع الإمام البدر، حيث لم تكن من قبل تلامس الحالة اليمنية من زاوية طائفية، كما يتم تصويره اليوم مع ميليشيا الحوثي التي كان يقيم زعيمها الديني بدر الدين في نجران، ممارساً للتعليم الديني دون أي مساس، كما هو حال الأقليات الدينية غير المسيّسة على تنوّعها. ورغم انتصار الجمهوريين على الإمامة، جاء تعامل المملكة مع الوضعية الجديدة وفق السياق السياسي، لا الاستقطاب الآيديولوجي الناصري، فاعترفت بشرعية الجمهورية العربية اليمنية، كما هو الحال في مباركتها للوحدة اليمنية في عدن في 22 مايو (أيار) 1990، بعد أن رفع صالح علم اليمن، ومن خلفه علي سالم البيض رئيساً للوزراء.
ورغم تنقلات صالح في الحرب والسلم بين الجنوبيين والحوثيين والإصلاحيين، وفق براغماتية بدت ذكية وماكرة، لم تتدخل السعودية إلا حين شنّ الحوثيون المتحولون باتجاه مشروع ميليشيوي إيراني هجمات على جبل الدخان في منطقة جازان، بدعم من صالح. حينها كان الحضور الإيراني يتمادى في اليمن على مرأى من صالح القلِق من «الإصلاح»، ومن علاقاته المتدهورة مع السعودية، وحينها كانت الشرارة لولادة الميليشيا، بل وتحولاتها الدينية من زيدية معتدلة إلى حركية ثورية مضادة للإسلام السياسي السني، والاقتراب من ثورية ملالي طهران الاثني عشرية. جاءت عقب هذا الدوامة التي صنعها صالح رياح الربيع العربي، فوجدت يمناً مهشماً ودولة شكلانية بلغت ذروتها في التدهور الاقتصادي والأمني، ونمو خلايا «القاعدة»، بجانب تحول الحوثيين إلى دولة داخل دولة.
لقد كان صالح رجل التفاصيل الصغيرة في الداخل، حيث أطلق رجال عائلته والمقربين منه لإحكام القبضة الأمنية والاقتصادية، وحتى العلاقات بين الفرقاء، كما كان رجل الشعارات الكبيرة في الخارج، حيث التلويح والضغط بورقة «القاعدة» للغرب والدول المجاورة، وبث القلق حول انفجار الأوضاع بسبب ما آلت إليه الحالة اليمنية اقتصادياً، حيث استطاع أن يتنصل من مسؤولية الدولة ليجعل المجتمع الدولي يشعر بتأنيب الضمير السياسي تجاه تقصيره في اليمن الذي بات أكثر خطراً وتهديداً مع هجرة «القاعدة» إليه، وأكثر استقطاباً للتحالفات السياسية بعد دخول المحور الإيراني له عبر بوابة الحوثيين العريضة والغامضة. ومن الجدير بالذكر أن المحور الإيراني بدأ يتخطى ارتكازه على الحوثيين في اليمن لينتقل إلى مجموعات وأطياف من المعارضة النخبوية التي تضم لفيفاً غير مؤثر من الصحافيين والناشطين ذوي الميول اليسارية والناصرية الذين استطاع صالح باقتدار تهميشهم، بل وجعل الشارع الثائر يلفظهم.
دهاء صالح السياسي مكنه حتى من التحكم في إيقاع الثورة، وإن كان خطؤه الاستراتيجي ارتباكه في تقديره حجم أنصاره، وقدرة الغضب السياسي في الشارع على التحول إلى براكين مشتعلة متى ما سال الدم، وإن كان الأكيد أن جزءاً من تصاعد الثورة اليمنية كان منوطاً بالخارج، وسرعة المبادرة الخليجية ودقتها، ووحدة النسيج اليمني بسبب رافعة القبيلة، حتى بين «الإصلاح» و«اللقاء المشترك» والقبائل، إضافة إلى الارتدادات «المعنوية» لباقي الثورات على اليمن.
من رئيس مثور عليه إلى مستهدف بالتفجير إلى رئيس مؤقت إلى معزول إلى حاضر كنظام ومؤسسة وغائب كشخص، تبدو سيرة الرجل السياسية بحاجة إلى دراسة أوسع، لا سيما أن «حفلة» الأمس رغم رومانسيتها الرمزية فإنها لحظة استحقاقات كبرى لليمن الجديد بدأت تطلق صافرات الإنذار لدول الجوار. فمسلسل التفجيرات القاعدية الشهير بدأ، والرغبة في الانفصال بدت أكثر من ذي قبل لدى الجنوبيين، وحتى الشارع اليمني بدأ يشعر بأن غنائم ثورته لم تطله أبداً.
في أول كلمة ألقاها عبد ربه منصور هادي، الرئيس الشرعي وإن رغمت أنوف، قال: «كل ما أتمناه أن أقف بعد عامين في مكان علي عبد الله صالح، وأن يقف الرئيس الجديد في مكاني، وكل طرف يودع الثاني، وهذه سنة الحياة في التغيير»، لكن تلك الأمنية لم تكن كافية لتعيد إلى اليمن ابتسامته الغائبة منذ وقت طويل، فالاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والوحدة أهم بكثير من أي تغييرات شكلية يدرك من يقرأ اليمن بتمعن أنها لم تطل ولن تطال الجيش، وإن كانت هناك عمليات تنظيف واسعة لمرافق الدولة تشبه إلى حد ما طريقة «الطلاق الإيجابي» الذي حدث مع الرئيس.
ثمة مغالطات كبيرة في فهم طبيعة علاقة الرئيس بالمكونات السياسية للمجتمع اليمني، وهو أمر يكاد ينفرد به اليمن دون غيره، تحدثت عنه أكثر من مرة، وهو يتصل بمفهوم الشكلانية السياسية في اليمن، وأنها قائمة على «قبلنة» الدولة الحديثة أكثر من تمدين القبلية، وهو نموذج إلى حد كبير يشبه مشروع الأسلمة الذي تتبناه جماعات الإسلام السياسي، وإن كان بشكل أكثر انفصالاً عن أي رؤى آيديولوجية ضيقة، وهذا ما يفسر صعود شخصيات قاعدية أو حوثية بعباءة مدنية سياسية تخفي جسداً مضرجاً بدماء التحيز الطائفي والآيديولوجي، والرغبة في السيطرة على هوية اليمن.
لا يمكن الخروج من شرنقة اليمن إلا بإرادة اليمنيين قبل غيرهم، فكل الجهود التي يبذلها التحالف لن تؤتي أكلها إلا إذا توافق اليمنيون على يمن واحد، عبر اجتراح خطط طويلة المدى لإعادة تأهيل المؤسسات العسكرية بطريقة تمكنها من التصدي للتنظيمات الإرهابية: «القاعدة» وميليشيا الحوثي و«داعش» الوليدة هناك.
أصدقاء اليمن الحقيقيون اليوم هم من أخرجوا البلاد من مأزق الانهيار بفعل الثورة، ورغم كل ما قيل عن المبادرة الخليجية، فإنها كانت ضمانة سياسية واقعية أفرزت هذا الوضع الذي يعد الأكثر نجاحاً على مستوى الثورات.
في التجربة اليمنية بعد الثورة كثير من الدروس والعبر بالمعنى السياسي في علاقة الديني بالسياسي بالقبلي، وعن بلد مسلح بما يزيد على مائة مليون قطعة سلاح، لكنه الأكثر سلمية وتماسكاً في ضبط ردود فعله. قديماً كان المهاجرون اليمنيون يهددون أبناءهم بتهجيرهم لمقاربة شظف العيش والرجولة والمسؤولية بقولهم «من لم يعلمه الزمن يعلمه اليمن».
*نقلا عن الشرق الأوسط