في مقاله بمجلة الشؤون “الخارجية” عدّد المؤرخ الأميركي روبرت كايغان مجموعة أسباب حولت ألمانيا من قوة معتدية ومصدر قلق داخل أوروبا وسبب حربين عالميتين مزقتا أوروبا، إلى قوة مقلمة عسكرياً وناعمة سياسياً ومتحضرة ثقافياً وناجحة اقتصادياً. من مصدر الفوضى إلى مصدر للاستقرار. بعدما كان جيرانها يرون أنها عدائية أكثر مما يجب باتوا يرونها مسالمة أكثر مما يجب. بعدما كانت نزاعة للغزو والسيطرة أصبحت عاملاً للاندماج والتوحد. عندما اتخذ البريطانيون قرار “البريكست” كانت ألمانيا أكبر المنزعجين من هذا الخروج.
كيف حدث هذا التحول؟ عوامل سياسية واقتصادية وعسكرية مختلطة. شعور ألمانيا بالأمان حتى لو بالهزيمة والمراقبة كان أحد الأسباب التي غيرت من مسارها. بفعل القوة الأميركية انتزع من الألمان أي قدرة على الصعود عسكرياً، ولكن تم استبداله بالصعود اقتصادياً، حيث أصبحت قوة صناعية كبيرة خلال عقود قليلة. وسياسياً من خلال المسار الديمقراطي الذي يمنع سيطرة أي أنظمة شمولية أو شخصيات استبدادية على شاكلة هتلر على الحكم.
المشكلة الأوروبية القديمة تكمن بوجود قوى طموحة متجاورة، وكل ذلك تسبب بتمزقها في حربين عالميتين، ونتج عنهما ملايين الضحايا حول العالم، وتدخل الولايات المتحدة وهزيمة ألمانيا ومنعها من التسلح خشية صعودها من جديد كقوة غازية نقل القارة عملياً إلى مرحلة جديدة جعلها تركز جهدها على الاقتصاد الذي كان السبب الأساسي في توحدها في نهاية المطاف.
بدون خوف من ألمانيا نازية معتدية وضمان أنها مهزومة عسكرياً، وجهت الدول الأوروبية الأخرى الطاقات إلى البزنس والمال وليس الحروب والصراعات. انخفض سباق التسلح واستبدل بسباق التكنولوجيا، ومن حينها عملياً لم نرَ حرباً ضارية واحدة داخل القارة الأوروبية.
سبب آخر كانت التجارة الحرة. في السابق كان الاقتصاد يعتمد على فكرة التصدير والسيطرة على الثروات، وهذا ما دفع حركة الغزوات. مساحات أكبر يعني ثروات أكثر، ولكن هذه القاعدة تغيرت مع نظام التجارة الحرة العالمي. تغيرت جذرياً الآلية، حيث يمكن أن تنتعش دول وتصبح قوى عالمية اقتصادياً بدون أن يكون لها حتى جيوش. نزع هذه الفكرة من المخيلة الألمانية جعلها تغزو العالم ولكن بالسيارات وليس المدافع. ضمان أمنها أميركياً ونجاحها اقتصادياً لم يكفِ، ولكن كان أيضاً تعرض التوليتارية القمعية إلى هزيمة مذلة وتجربة التحول الديمقراطي الناجح على المستوى السياسي والاقتصادي دفع الألمان نحو هذا التوجه والاقتناع أكثر بنموذج أوروبا الغربية المزدهر. بسبب هذا التحول الكبير من الصعب حتى تخيل أن تعود ألمانيا إلى نوع جديد من النازية أو الفاشية الحديثة.
قصة تحول ألمانيا إلى دولة طبيعية ناجحة لم يكن إلا بهزيمة عسكرية ووجود نظام عالمي قوي بقيادة أميركية، راقب نزعاتها العدائية حتى تمكن في نهاية المطاف من دمجها في النظام الديمقراطي والرأسمالي حتى أصبحت من أهم عناصره. ومن منطلق هذه الفكرة تحديداً حاولت إدارة الرئيس جورج بوش القيام بذات الأمر مع العراق بعد أن تحول إلى أزمة كبيرة للعالم. ونعيش ذات الأمر مع طهران التي أصبحت قوة تخريبية ومؤذية ليس فقط لمحيطها ولكن لدول بعيدة عنها. إيران الخمينية تشابه ألمانيا النازية، ليس في قوتها العسكرية أو الاقتصادية ولكن بسبب عقيدتها الشريرة ولكونها مصدر قلق عالمي، ومن الصعب عملياً أن تنتقل المنطقة من الصراعات التي تتسبب بها إيران وملاحقة التنظيمات الإرهابية التي تمولها والميليشيات التي تدعمها إلا بالوقوف بوجه مشروعها التوسعي. ويبدو أن الإدارة الأميركية الحالية مقتنعة أن 40 عاماً مدة كافية وجاء الوقت لمحاسبتها وتحويلها من نظام مارق لدولة طبيعية مثل جيرانها. ولهذا بدأت العقوبات الاقتصادية الخانقة، وهي الفصل الأول من هذا التغير التاريخي المهم. ومن المحتمل أن وزير الخارجية الأميركي بومبيو الذي يقود هذه الحملة لمجابهة النظام الإيراني يستحضر في ذهنه التاريخ الذي يقول لو لم تتدخل قوى عظمى لوقف الاعتداءات الألمانية المتواصلة وإخضاعها لربما مازلنا نعيش عالماً من الفوضى والنزاعات حتى هذه اللحظة.