و أتيت يا شهر رمضان ! و قد جعلك الله كواحة في هجير الصحراء، و فيض في زمن الجدب، و مؤنس في الملمات و الكربات، و نور في حالك الظلمات، و هدى يزيد الذين اهتدوا ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان).
رمضان أيتها المحطة المتجدّدة كل عام، المجدِّدة كل نفس سوية، و روحا مُلهَمَة ( ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها) فتبينت النفوس التقية مسارها، و سلكت مسالك تقواها، و طرحت مسالك الفجور؛ باستقامة الإيمان و العمل؛ فأفلحت بتزكية الذات، و تطهير النفس، و نبل الفعل، و صلاح المقصد، على غير شاكلة النفس التي حقّرت ذاتها، و دنّست طهرها، و ساء مقصدها، فاستهواها الشر، وجذبها الفجور، فراحت تتحرّى الشر و تعمل به، و تتلمس الفجور و تلغ فيه، مع أن الأمر بيّن و الحق قد لاح ( قد أفلح من زكاها و قد خاب من دسّاها).
أتيت يا شهر رمضان تعزز قيما نيّرة، و تمتّنُ ضَوابطَ قيّمة، روحها مراقبة يقظة؛ تنتصر فيها للنفس على الذات إذ تكبح ردود الفعل، و تكظم نوازع النفس، و تحبس هوى الانتقام أمام أي خطأ يثيرك، أو عمل يستفزك؛ فإذا أنت تلهج صابرا محتسبا : ( اللهم إني صائم ) إنه الفلاح، في ميادين الحياة التي تفرض عليك مخالطة الناس، الذين هم طبائع شتى، فإذا أنت في ميادين التحدي؛ لاستيعاب الطبائع المتباينة، و النفسيات المتقلبة، و زادك هنا الصبر الذي هو ( شطر الإيمان ) و هل يغفل عاقل ما قرر الرحمن من جزاء ( إنما يُوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب) و تتعاظم حاجة الصبر و الانضباط في شهر رمضان؛ لأن ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به، و الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب، فإن سابّه أحد، أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم )!
هنا يمتحن مقام الصبر، أو قل يتجلّى مقام الصابرين، هنا اختبار عمل الضبط و الضوابط .
يمسك المرء ردود فعله، و يضغط على مشاعره، و يكبح جماح نفسه أمام أي قول أو فعل يطوله، و يمسّ مشاعره، فلا يكون منه إلا( إني صائم إني صائم ). فقد يقذف المجتمع في وجهك بنوعيات ( تتجنب) الصدق، بقدر ما تتحرّى الكذب الصراح، و الافتراء المحض، فهل تسمح نفسك أن تنجر إلى تلك المستنقعات؟ أم تتحصن ( بإني صائم إني صائم)؟
في المقابل علينا أن نتنبّه إلى مفهوم هذا المنطوق الرفيع، بمعنى إذا كان غيرك أحوجك إلى أن تتذرع بالصبر ، فتنال بصبرك أجرا ، فإياك إياك أن تزل قدمك، أو تنفلت لسانك، أو تطيش يدك، في هفوة أو هنّة من قول أو فعل تجاه آخر ، فيواجهك بصبر و احتساب ( إني صائم ) فيذهب بأجر و حسنات، و تبوء بإثم و سيئات.
بمعنى لا تجعل لغيرك – بسوء فعل منك أو قول – إلى نفسك سبيلا، فإذا غيرك من يواجهك بملاذ ( إني صائم ) فإذا هو الرابح و أنت الخسران !
شهر رمضان مدرسة ربانية ؛ تتعهد نفوسنا و أرواحنا كل عام، و دورة تدريبية عملية يربح فيها من صام إيمانا و احتسابا، و من قام إيمانا و احتسابا، حيث يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم : ( من صام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) كما يقول (من قام رمضان إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). و يخيب في هذه المدرسة، و يخسر الدورة ؛ أولئك الذين قال فيهم عليه السلام: ( من لم يدع قول الزور و العملَ به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه).
فليت ( بعض) الأقلام الإعلامية تصوم عن قول الزور، و ليت ( بعض) أصحاب المواقف السياسية تصوم عن فعل الزور، و ليتنا جميعا نفتح صفحة جديدة مشرقة بالود و الإخاء ، و بهدي النبي المختار ( اللهم إني صائم ).