فقدت باريس أحد أبرز معالمها التاريخية، باحتراق أجزاء من كاتدرائية نوتردام العريقة، وانهيار البرج الذي يرتفع لنحو 93 مترًا، والذي أضاء سماء عاصمة النور لقرون.
ولفّت مشاعر الحزن العالم، شرقًا وغربًا، إذ أجمعت النخب السياسية والأوساط الثقافية والإعلامية والدينية على أن احتراق كاتدرائية نوتردام، ذات الرمزية الطاغية في الوجدان الإنساني، يمثل ”يومًا أسود للحضارة البشرية“.
وصدرت تصريحات رثاء للكاتدرائية المدرجة على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، من معظم قادة العالم ونخبه ومشاهيره، أوجزتها مديرة اليونسكو ذاتها، أودري أزولاي، حين وصفت الحدث، بأن ”قلب باريس يحترق“، فيما علق أحد سكان باريس في بساطة وحسرة: ”من المؤلم رؤية رمز أيقوني يختفي أمام ناظريك في بضعة دقائق“.
قبلة السياح
وعاصرت كاتدرائية نوتردام، الواقعة في قلب باريس التاريخية على ضفاف نهر السين، تحولات وأحداثًا كبرى، فأصبحت بمرور القرون صرحًا سامقًا، يطل من مجاهل التاريخ البعيد، ليرسم أمام أعين الفضوليين والسياح، الذين يقدر عددهم بنحو 14 مليونًا سنويًا، شريطًا سينمائيًا صامتًا، دون انقطاع، عن الفن والثقافة والسياسة، ناهيك عن الدين.
ويندر أن يزور أحد باريس دون أن يقوم بجولة في أرجاء الكاتدرائية الباذخة التي عرفت كأكثر المعالم السياحية زيارة، داخل حدود باريس، على عكس الاعتقاد الشائع بأن ”برج إيفل“ يمثل المعلم السياحي الأكثر زيارة.
ووفقًا للمصادر التاريخية، فإن الكاتدرائية شيدت بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وهي تمثل تحفة لفن العمارة القوطية التي سادت، آنذاك، ليمتزج، لاحقًا، بطرز معمارية أخرى تعكس ملامح الحقب التي مرت على الكاتدرائية.
وتضيف المصادر أنه وقبل 860 عامًا، حين تولى موريس دو سولي، منصب أسقف باريس، كانت تقبع في موقع الكاتدرائية الحالي، كنيسة صغيرة على الطراز الروماني لم يرها الأسقف كافية لأعداد المسيحيين المتزايدة، فأمر دو سولي ببناء كاتدرائية جديدة، ضخمة وشاهقة.
وفي العام 1163، وضع حجر الأساس لبناء الكاتدرائية، لكن الخطط الأولية الأصلية لبناء الكاتدرائية الجديدة، خضعت لتعديلات وتحسينات على مدار سنوات طويلة قبل اكتمال بنائها بعد أكثر من قرن، لتشكل مركزًا للعقيدة الكاثوليكية الرومانية.
وفي خضم الحروب الدينية التي شهدتها فرنسا في القرن الـ 16، ووسط التوترات بين الكاثوليكيين والبروتستانت، تعرضت بعض تماثيل الكاتدرائية للإتلاف على أيدي البروتستانت.
وفي نهايات القرن الثامن عشر، وخلال أحداث الثورة الفرنسية (1789) نهبت الكاتدرائية من جديد، لتظل بعد ذلك مهملة إلى أن جاء نابوليون بونابرت إلى السلطة، وجرت مراسم تتويجه إمبراطورًا داخل مبنى الكاتدرائية.
أحدب نوتردام
بعد بونابرت ظلت الكاتدرائية الضخمة مهملة، إذ نشأت الأحياء الفقيرة حول المبنى العتيق ونسي سكان باريس تاريخ ”نوتردام“، واستمر الوضع هكذا حتى أصدر فيكتور هوجو ( 1802 ـ 1885) عمله الخالد ”أحدب نوتردام“، سنة 1831، وبعد الشهرة التي حصدتها الرواية، أمر الملك لوي فيليب في عام 1844 بإعادة إعمار الكاتدرائية، ليستعيد المبنى الباريسي رونقه ومكانته التاريخية الجليلة.
وتدور أحداث رواية هوغو، كما يشير اسمها، في كاتدرائية نوتردام حيث يرعى أحد القساوسة طفلًا أحدب يدعى ”كوازيمودو“، يظهر في شكله الخارجي وملامحه قبح، قل نظيره، لكنه ينطوي في دواخله على فائض من الجمال والعذوبة الخفية.
ويقوم القس بتدريب ”كوازيمودو“ على قرع أجراس الكاتدرائية، ويبقيه بين جدرانها العالية، ولا يسمح له بالخروج، كرمز لرفض العالم الخارجي لهشاشة الإنسان وضعفه، لكن في أحد الأيام يتم اختيار الأحدب ليكون زعيم المهرجين في احتفال باريسي، فيقع في حب الراقصة الغجرية ”أزميرالدا“، التي منحته الدفء المفقود.
وأراد صاحب رواية ”البؤساء“، بروايته ”أحدب نوتردام“ أن ينتصر للضعفاء والمهمشين، عبر سرد أدبي أغرى السينما والمسرح مرارًا، وأظهر مقدار الإيثار والصفاء والطيبة التي يتمتع بها بطله ”المهزوم“، حبيس جسده المشوه الفاني.
ومع أحداث الحرب العالمية الثانية، تعرضت الكاتدرائية لأضرار قليلة إبان عملية تحرير باريس من أيدي النازيين، وأقيم في كاتدرائية نوتردام قداس خاص في ثاني أيام تحرير العاصمة بحضور الرئيس الفرنسي، آنذاك، شارل ديغول.
وتنقل بعض المصادر التاريخية عن أدولف هتلر قوله لضباطه وجنوده لدى احتلال باريس، بعدم المساس بالمباني التاريخية في العاصمة الفرنسية، رغم أن الزعيم النازي لم يتورع عن ارتكاب الفظائع في مختلف مدن أوروبا.
وقبل حريق يوم أمس، وتحديدًا حتى ظهيرة الإثنين، كانت تقام في الكاتدرائية خمسة قداديس يوميًا، وسبعة في أيام الأحد، وكانت تحوي المئات من الأيقونات واللوحات الفنية والقطع والتحف الأثرية، غير أن الحريق الذي سيؤرخ كيوم مشؤوم في التاريخ الفرنسي والعالمي، أتى على كل هذه القداسة والجمال، وإذن لبداية جديدة سوف تشهدها هذه الكاتدرائية، كما أشار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال بحرقة وهو يشاهد ألسنة اللهب تلتهم أهم معلم في بلاده: ”سنبني، معًا، كاتدرائية نوتردام من جديد“.