أجمعت المكونات السياسية وغير السياسية في اليمن خلال مؤتمر الحوار الوطني الشامل على إقرار نظام الأقاليم كحل جذري وشامل للمشكلات المعقدة والمتداخلة التي عصفت وتعصف بالبلاد متسببة بنزاعات مسلحة لا تتوقف.
ولم يكن هذا الإقرار الجمعي لمجرد المصادفة أو لتغيير نظام حكم بنظام حكم آخر بهدف التجربة وحسب، بل سبق ذلك دراسات شاملة لجذور القضايا الوطنية المتعددة بالنظر إلى أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومراحل تطوراتها، ليتحقق الإجماع بعد ذلك على ضرورة تبني نظام الأقلمة كإطار لحلول شاملة ومستدامة ستسهم في تصفير المشكلات ومسببات النزاعات الداخلية، والتوجه نحو البناء والتنمية والعمل التشاركي والتكاملي بالإستناد إلى مبادئ الحكم الرشيد والمواطنة المتساوية.
وما يدعو للعجب والاستغراب تداول البعض جملة من الإشاعات والمفاهيم الخاطئة التي عملت على نشرها بعض القوى الإمبريالية والجماعات البراغماتية، والتي تفيد بأن نظام الأقلمة سيفضي إلى تقسيم البلد الواحد، ولن يتمكن المواطن في ظله على التنقل بين سائر الأقاليم، ولن يسمح لأبناء إقليم معين بالاستثمار أو الحصول على فرص وظيفية في الإقليم الآخر، وغيرها من الإشاعات التي زرعت قناعات خاطئة وبات البعض يرددها وهو لا يعلم أن مصدرها مراكز قوى منتفعة بثروات الشعب ومقدراته، وإذا ما تم تطبيق نظام الأقلمة سيكون مصيرها إلى الزوال وسينعم المواطنون كافتهم بالمواطنة المتساوية والفرص المتكافئة والتوزيع الأمثل للسلطة والثروة والموارد، وقبل أن نتحول إلى أبواق لهذه القوى وأعداء للمصلحة العامة، ينبغي أن نتعرف على نظام الأقلمة، ونقف على تفاصيل متعلقة به من خلال هذا التقرير.
مشروع اليمن الاتحادي
حملت مخرجات الحوار الوطني الشامل مشروع اليمن الاتحادي الذي يقضي بقيام دولة اتحادية لامركزية من ستة أقاليم لكل إقليم حكومة وبرلمان خاص به لإدارة شئونه المختلفة، وتتولى الحكومة الإتحادية إدارة شئون الدفاع والشئون الخارجية للبلاد، إلى جانب توليها المشاريع التنموية والإصلاحية على المستوى القومي.
وكان من المقرر البدء بتنفيذ نظام الأقلمة بعد إقراره من كافة القوى المشاركة في الحوار، غير أن مليشيا الحوثي وكافة القوى المتضررة من هذه المخرجات انقلبت على الشرعية الدستورية في البلاد، وخاضت حربا مسلحة على القوى الوطنية بغية وأد هذه المخرجات التي ستصيبها في مقتل إذا دخلت حيز التنفيذ.
دولة اتحادية بأسس وطنية
تنص مخرجات الحوار الوطني الشامل بأن بناء الدولة اللامركزية سيتم على أسس وطنية بما يعزز مبادئ الحكم الرشيد والشراكة الوطنية والعدل والمساواة وسيادة القانون وحيادية المؤسسة العسكرية والأمنية والفصل بين السلطات وضمان استقلاليتها وضمان الحقوق والحريات، ويشير مفهوم الرشيد إلى شفافية نظام الحكم وإشراك المواطنين في صناعة القرار السياسي والتنموي والاقتصادي والثقافي وغيره، ومن أهم قيمه ومبادئه:
– حرية المشاركة، وتشمل: حق المشاركة والانتخاب والتصويت، وإبداء الرأي، والمشاركة الفعّالة والمباشرة في العملية الانتخابية، مع ضمان حرية الجماعات في تشكيل الأحزاب، والجمعيات، والنقابات التي تضمن الحريّات العامّة للإنسان.
– سيادة القانون: لا بد أن يكون القانون مرجعية ثابتة وقوية لكافة المواطنين، وتعتبر سيادته هي الأقوى، حيث يقوم الحكم الرشيد على قوة التقاضي أو التحاكم، وما يتطلب ذلك من نظام قضائي نزيه، وكفؤ، وشفاف، ومستقلّ، وسرعة البت في النزاعات، بهدف تحقيق العدالة، وخاصة عند وجود انحرافات وممارسات غير مقبولة في المجتمع.
– الشفافية: يدلّ هذا المعيار على تحقيق الكشف، والشفافية، والإفصاح، والوضوح في كافة التعاملات، ويتيح توفر كبير للمعلومات المختلفة، وذلك من خلال فتح قنوات الاتصال الفعالة بين المواطنين والجمهور والمسؤولين والقائمين على الأعمال المختلفة في المجتمع والدولة، بحيث يضمن ذلك الحفاظ على حقوق جميع الأطراف، ويقلّل من تضارب المصالح، ويتيح للمواطن إمكانية الاطلاع على الأوضاع وفهم الواقع.
– الاستجابة: يتمثّل ذلك في حسن وسرعة الاستجابة والتعاون، حيث يكون ذلك أحد السمات الأساسية التي تتصف بها البرامج والخطط الموضوعة لخدمة المواطنين من كافة الفئات والطبقات الاجتماعية.
– المساواة: لا بدّ من الحرص على تحقيق العدالة والمساواة فيما يتعلّق بتوفير الفرص لكافّة أفراد المجتمع، دون أية اعتبارات قائمة على أساس الجنس، أو المال، أو الدين أو غيره، أي: أنّ تتمّ إتاحة الفرص بدون تحيز وبكل موضوعية، وتأخذ جميع الفئات حقّها.
– الفعالية: وهي إنجاز الأهداف، والقدرة على تحقيق كافة الأهداف الموضوعة في الخطط، وذلك من خلال استغلال الموارد بالأسلوب الأمثل لتحقيق ذلك.
-المساءلة والمحاسبة: أي الرقابة على الموظفين والمسؤولين في الجهات العليا في الدولة، والحرص على عدم حدوث الفساد، والاحتكار، والاختلاس، وغيرها من الممارسات غير الأخلاقية.
– النزاهة: تتمثّل في مجموعة القيم الأخلاقية الموجودة في مدونة السلوك المقبولة، مثل: الصدق، والأمانة، والإخلاص، والمهنية، وإدارة المصالح العامة، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، والمحسوبية، والاحتكار، وغيرها من الممارسات غير المقبولة.
– الرؤى الاستراتيجية: وتتمثّل في جملة الخطط متوسطة وبعيدة الأجل التي يتمّ وضعها خصيصاً لغرض تطوير المجتمع والنهوض به، ويتمثّل في قائمة الطموحات التي يسعى الأفراد والمواطنون والمجتمعات والدولة إلى تحقيقها من خلال تطبيق كافّة معايير ومبادئ الحكم الرشيد.
وستضمن أسس بناء الدولة الاتحادية كما نصت المخرجات التمثيل المتوازن من كافة الأقاليم في الأمن والقوات المسلحة والمجلس الاتحادي التشريعي وكافة مؤسسات الدولة المركزية، وهو ما سيمنع استحواذ منطقة دون أخرى أو جماعة دون أخرى بالسلطة والثروة والموارد والتمثيل الاتحادي.
علاقة إشرافية
ما يتعلق بالملفات الاقتصادية والمالية والتنموية والخدمية ووفقاً للمخرجات ستكون من صلاحيات الأقاليم إداريا وماليا، وتختص السلطات الاتحادية بأداء وظيفتها الإدارية عبر نظام إداري مركزي تدير من خلاله جميع الوظائف الإدارية الاتحادية من توجيه وتخطيط ورقابة وتنسيق، ويكون لها فروع أو مكاتب بحسب الحاجة، ما يعطي للأقاليم صلاحيات مطلقة في إدارة كافة شئونها بعيداً عن التعقيدات البيروقراطية والمركزية.
تنمية حقيقية وشاملة
تعتمد سلطات الأقاليم المكونة للدولة الاتحادية اليمنية نظام اللامركزية الأساسية بشقيه الأساسيين اللامركزية الإقليمية، واللامركزية المرفقية في إدارتها لشئون الإقليم، وفقا للآتي :
– بمقتضى أحكام الدستور تقسم أراضي الإقليم إلى وحدات إدارية محددة تسمى محافظات أو بلديات أومدن ، ومديريات، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية.
– يكون لهذه الوحدات مجالس منتخبة تتولى الإشراف وإدارة شئون الوحدات توجيها وتخطيطا ورقابة باستقلال تام في القرار المالي والإداري، وتخضع في أداء مهامها لسلطات الإقليم.
– يمنح القانون الإقليمي اللامركزية المرفقية والشخصية الاعتبارية والاستقلال الإداري والمالي لبعض المرافق والمصالح العمومية الحيوية.
ويعد هذا الإجراء انتصار تاريخي للتنمية الريفية المستدامة المبنية على المشاركة وردم الاحتياجات الفعلية، وبهذا سنتمكن من تجاوز مشكلات التخطيط المركزي الرأسي غير المبني على معلومات دقيقة، وتحديد الاحتياج الحقيقي للمناطق المنسية والمحرومة من التدخلات التنموية، أو يتم التدخل فيها بشكل لا يلبي الاحتياج الفعلي الأمر الذي يتسبب بهدر الأموال الكبيرة في غير مكانها.
التنوع والحراك المتزامن
ستشهد كل الأقاليم وبشكل متزامن حراكا اقتصاديا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا ،فلكل إقليم موارده وإمكانياته وخططه المبنية على تحديد الاحتياج الفعل، ولن يكون أي إقليم مضطرا إلى انتظار التفاتة من الدولة المركزية، وهناك المزيد من الأطر التي ستعمل على تسهيل حدوث هذا النماء المتزامن وهي:
– لكل إقليم الحق في إصدار التشريعات الخاصة به، واستيعاب خصوصيات الإقليم في هذه التشريعات.
– سيتم وضع قانون النفط العام وفقا للمعايير الدولية، وبما يضمن حق الامتياز لأبناء المناطق النفطية.
– تشترك سلطات المناطق النفطية مع سلطات الإقليم مع السلطات الاتحادية في توقيع العقود النفطية، وفي هذا ضمان لاستفادة المناطق النفطية من عوائد المبيعات.
– لجميع المواطنين تنظيم أعمالهم التجارية والاقتصادية وغيرها بحرية تامة وتكفل الدولة تحقيق ذلك، ولن تكون هناك بيوت تجارية محددة هي من تتحكم بكل شيء.
وستتاح لكل إقليم اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير الكفيلة باستغلال الموارد المحلية لتحقيق تنمية شاملة وكاملة ومستدامة، بالإضافة إلى العمل المشترك بشكل تضامني وتكافلي بين كافة الأقاليم.
مفاهيم خاطئة عن نظام الأقاليم
الإجماع الوطني على بناء دولة اتحادية بنظام الأقاليم من قبل ممثلي كافة مكونات الشعب اليمني في الحوار الوطن، أتى بعد دراسات مستفيضة وجلسات نقاشية متعددة ولقاءات تشاورية مع نخبة الخبراء المختصين بهذا الجانب، والتي خلصت إلى أنه الحل الشامل والجذري لجملة المشكلات المحلية والقضايا الوطنية العالقة، فمن خلاله ستتوفر أرضية مشتركة لتسوية القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، لكن المرجفين وأصحاب المشاريع الصغيرة والمصالح الضيقة تمكنوا من خلط المفاهيم وغرس القناعات الخاطئة بغية الإبقاء على مصالحهم على حساب المصلحة العامة، ومن هذه المفاهيم:
– الهدف من الأقاليم تقسيم اليمن إلى دول متعددة : وهذه الإشاعة الكاذبة مجافية للحقيقة، فالهدف من الأقاليم إحداث تنمية شاملة ومتكاملة ومستدامة في كل ربوع البلاد بما في ذلك المناطق الريفية، وتحتفظ السلطات الإتحادية بالسيطرة على القوات الأمنية والقوات المسلحة، ولن يتمكن أي إقليم من الإنفصال أو التمرد العسكري،من جانب آخر ستبقى إدارة الشئون الخارجية تابعة للسلطة الاتحادية، بالإضافة إلى عدد من المؤسسات الحكومية الاتحادية كالمجلس الاتحادي والمحكمة الدستورية العليا وعدد من المؤسسات التشريعية والرقابية والمؤسسات ذات الطابع المستقل ،مما يجعل سيناريوهات انقسام اليمن والتشطير والتمهيد لقيام دول متعددة مستبعدة تماما.
– التضييق على المواطنين وعدم السماح لهم بالتنقل أو الاستثمار أو الحصول على الفرص في إقليم آخر لا ينتمون إليه: وعلى عكس ذلك تنص الموجهات والمحددات بهذا الخصوص، فمن مبادئ الدستور الاتحادي حرية التنقل والحركة والاستثمار بين كل الأقاليم اليمنية بما في ذلك الحصول على الفرص التجارية والفرص الوظيفية المختلفة، إذ أن نظام الأقلمة يهدف إلى تنظيم الموارد المحلية والقومية وتسهيل حركة استثمارها، ولا يهدف إلى خنق حركة المواطنين.
-استئثار بعض الأقاليم كالأقاليم النفطية والسياحية والسمكية بالموارد على حساب الأقاليم الأخرى الفقيرة: يعتبر هذا أيضاً من المفاهيم الخاطئة والقاصرة جدا وينم عن جهل كبير بنظام الأقاليم وبطبيعة اليمن الغنية، فكل الأقاليم غنية بالموارد وتمتلك مقدرات واسعة، ولا تقتصر الثروة على النفط والسواحل، فهناك مقومات سياحية وزراعية وصناعية وغيرها في كافة الأقاليم ،بالإضافة إلى الضرائب المحلية الكفيلة بتغطية نفقات الإقليم إذا ما تم تنظيمها، وسيعمل نظام الأقاليم على تسهيل هذه الجوانب، ثم إن هناك مشاريع قومية ستقوم الدولة الاتحادية بتبنيها في كافة الأقاليم وفقا للاحتياج والأولوية.
-لا تمتلك بعض الأقاليم القدرات التي تؤهلها لمواكبة نمو الأقاليم الأخرى : ستتبنى السلطات الاتحادية خلال المرحلة الانتقالية وإنشاء الأقاليم جملة من البرامج التنموية والاقتصادية الموجهة للمناطق المحرومة من برامج التنمية مثل: صعدة والمناطق السواحلية وغيرها لتتمكن من النهوض ومواكبة بقية المناطق.
تجارب ناجحة
تبنت العديد من دول العالم نظام الأقلمة بشقيه الفدرالي والكونفدرالي، لتصبح دولاً ناجحة تنافس على المراتب الأولى في الاقتصاد العالمي، وأبرز هذه التجارب:
– ماليزيا: دولة اتحادية ملكية دستورية تقع في جنوب شرق آسيا مكونة من 13 ولاية وثلاثة أقاليم اتحادية، بمساحة كلية تبلغ 329,845 كم2، عاصمتها كوالالمبور، في حين أن بوتراجاي هي مقر الحكومة الاتحادية، وعلى الرغم من تعدد اللغات والأديان والأقليات فيها إلا أنها أصبحت قوة اقتصادية عالمية منافسة تمتلك العديد من الماركات الصناعية الخاصة بها إلى جانب تسابق الشركات العالمية على تواجدهم فيها نتيجة البيئة الاستثمارية المشجعة، واستطاعت أن تحدث نقلة اقتصادية وصناعية وتعليمية وسياحية غير مسبوقة.
-كندا: دولة فيدرالية يحكمها نظام ديمقراطي تمثيلي وملكية دستورية، وهي ثنائية اللغة حيث الإنكليزية والفرنسية لغتان رسميتان على المستوى الاتحادي، وتعتبر واحدة من أكثر دول العالم تطورا، و تمتلك اقتصاداً متنوعاً ،وتعتمد على مواردها الطبيعية الوفيرة، وعلى التجارة وبخاصة مع الولايات المتحدة، و كندا عضو في مجموعة الدول الصناعية السبع ومجموعة الثمان ومجموعة العشرين وحلف شمال الأطلسي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية ودول الكومنولث والفرنكوفونية ومنظمة الدول الأمريكية والإبيك والأمم المتحدة ، وتمتلك واحداً من أعلى مستويات المعيشة في العالم، فمؤشر التنمية البشرية يضعها في المرتبة الثامنة عالمياً.
– أستراليا: دولة فيدرالية متقدمة، تحتل المركز الثالث عشر في التقدم الاقتصادي والمركز السادس عشر في تصنيف مؤشر التنافس العالمي للمنتدى الاقتصادي العالمي. وتصنف في مراكز متقدمة في العديد من التصنيفات العالمية منها : التنمية البشرية وجودة الحياة والرعاية الصحية والعمر المتوقع والتعليم العام والحرية الاقتصادية وحماية الحريات المدنية والحقوق السياسية، وتعدّ عضواً في مجموعة العشرين ومنظمة التنمية الاقتصادية وإبيك ومنظمة التجارة العالمية ومنتدى جزر المحيط الهادي، وهي الأولى في معيار جودة المعيشة خارج أوروبا.