لم يكن الأذان الإسلامي بعيدًا عن معارك الطائفية والسياسة قديمًا وحديثًا.
ولا أدلّ على ذلك من عدم وجود أذان إسلامي موحد، وإنما ثلاث صيغ للأذان هي الأذان السني، والأذان الفاطمي/الزيدي، والأذان الشيعي. فإذا اختارت المساجد صيغة معينة من الصيغ الثلاث فهذا إعلان عام عن القوة السياسية والمذهبية المسيطرة.
حين سيطر الفاطميون على مصر أضافوا عبارة “حيّ على خير العمل” إلى الأذان، وكانت للإضافة رمزية سياسية لقوة المذهب الحاكم الجديد.وما أن سقط الحكم الفاطمي على يد صلاح الدين الأيوبي حتى كان الغاء عبارة “حيّ على خير العمل” أول قرار، وأول إعلان عن الحاكم القادم.
في اليمن، كان حكام المذهب الزيدي يلزمون سكان المناطق الشافعية بالأذان الزيدي، فإن رفضوا كانت الحملات العسكرية كفيلة بإخضاعهم. ولهذا لم يكن غريبًا أن كثيرا من الثورات والانتفاضات ضد الحكم الزيدي في اليمن، كانت تبدأ بنفس الإجراء الرمزي الملفت للنظر، وهو إلغاء عبارة حيّ على خير العمل من الأذان، كناية عن التمرد على الحاكم إنهاء مشروعيته.
تمّ تعميم الأذان السني بعد خلع آخر أئمة الزيدية عام، 1962 وإن ظلّت بعض المساجد ترددها اختياريًا، لكن ما أن سقطت السلطة من جديد في يد قوات الحوثي الزيدية المذهب عام 2014، حتى فُرضت من جديد صيغة الأذان الزيدي على المساجد وعلى وسائل الإعلام. والذين عاشوا في اليمن خلال العقود الأربعة الأخيرة، يعرفون أن صيغة الأذان المعتمدة، كانت تتحول أحيانا الى قضية أمن قومي.
وإذا كان العالم كله قد تابع المعركة ضد داعش في العراق، فإن قلة فقط من لاحظوا أن الأذان كان أداة من أدوات السياسة واستعراض القوة. فما إن دُحِر داعش من مدينة الفلوجة سنية المذهب، حتى رفع مقاتلو الحشد الشعبي الأذان الشيعي من مساجد المدينة، في رسالة واضحة وصريحة عن تشييع العراق الجديد.والأذان الشيعي لمن لا يعرفه يختلف عن الأذان السني والزيدي بإضافة عبارتين هما “أشهد أن عليًّا ولي الله” و”أشهد أن عليا حجة الله”.
كما هو واضح ليس الأذان مجرد شعيرة عبادية بسيطة، بل كان وسيظل إعلانا عامًا عن الانقلاب الجديد في ميزان القوة وعن الحاكم الجديد المتربع على الكرسي.
لكن هذه ليست كل القصة.
أدى اندماج الأذان مع التكنولوجيا الحديثة “الميكروفون”، إلى منحه قوة مضاعفة، قوة السيطرة على المجال العام وتوجيهه نحو الصوت القوي والهادر من ميكرفون الجامع. السلطة هنا ليست سلطة الأذان لكنها سلطة الميكروفون. أما الصراع فلم يعد فقط صراعًا حول صيغة الأذان، لكنه تحول الى صراعٍ ٍحول من يسيطر على المجال العام من خلال ميكروفون الجامع.
ومع حالة المد الديني في الشارع العربي لم يعد الميكروفون ينقل الصلاة فقط، بل صار ينقل المحاضرات والخطب ويحشد ويحرض ويسيّس.
وكان أن تفجر الصراع على المساجد بين السلفيين، والإخوان، وائمة التدين التقليدي، والتدين الرسمي راسمًا صورة فوضوية لكل ما يذاع عبر المسجد.وجدت الدولة أنها فقدت السيطرة على المجتمع عندما فقدت سيطرتها على ميكروفون الجامع. أما القوى الحديثة من ليبراليين وعلمانيين وديمقراطيين فقد شعرت أن تسييس ميكروفون الجامع، يؤثر على حيادية المجال العام الذي بدونه لا يمكن لقوى الحداثة أن تتحرك وتغير.
ولعل هذه هي الخلفية الحقيقية للمعارك المحتدمة اليوم حول الأذان في مصر وتونس والسعودية واليمن. وهو في حقيقته صراع حول امتلاك ميكروفون الجامع أكثر من كونه صراعًا حول الأذان نفسه.
لا يمكننا مثلا أن نفهم التصريحات الجريئة التي صدرت من مثقفين سعوديين مطالبة بمنع بث الأذان عبر الميكروفون، دون الأخذ بالاعتبار المعارك الدائرة في المجتمع السعودي حول الخلاص من مرحلة “الصحوة” وحالة الهوس الديني التي أثارتها تلك المرحلة منذ 1979 حتى اليوم.
في السعودية بالذات كان ميكروفون الجامع عندما يصدح، يعلن نهاية كل الانشطة الدنيوية وموتها المؤقت، فكانت تغلق كل المحلات والاسواق والمطاعم والمكاتب عند رفع الأذان، إلى أن ينتهي وقت الصلاة ويسكت ميكرفون الجامع. في صراع سعودية اليوم بين الخطاب الديني والخطاب الدنيوي، تواجه “هيئة الترفيه” السعودية السلطة التي كانت تمتلكها “هيئة الأمر بالمعروف”، وتنتزعها منها تدريجيًا بدعم من الكرسي الملكي.
وكما يجري تحرير المجال العام من السيطرة الدينية عبر اقامة الحفلات الموسيقية والفنية وافتتاح دور السينما والسماح للنساء بحضور المباريات في الملاعب، لا بد من أن يتحرر المجال العام من ميكروفون الجامع، الذي يمارس سلطة متضخمة في التوجيه والتحريض ضد أي فعل لا يرضى عنه المتحكمون بالميكروفون في هذا الحي أو ذاك.
وعندما قررت تونس إخضاع المؤذنين لدورات في المقامات الموسيقية في معهد الرشيدية الموسيقي لم يكن الهدف التغلب على الاصوات النشاز فقط. الهدف الواضح من تدريب المؤذنين على مقامات الأذان التونسي هو الحفاظ على الهوية الدينية التونسية، في مواجهة زحف الإسلام السياسي بجناحيه السلفي والإخواني. لكن الى جانب ذلك، هناك هدف أبعد هو استعادة سيطرة الدولة على فوضى المساجد والخطاب المنبعث من داخلها. ورغم أن تونس لديها قانون صارم يمنع فتح ميكروفونات المساجد إلا في الأذان فقط، لكن تطورات الصراع على الخطاب الديني العام تجعلها بحاجة إلى تشريعات أكثر صرامة.
معركة الأذان في تونس تذكرنا بمعركة الأذان في تركيا الكمالية، عندما أصدر أتاتورك قرارًا يلزم المؤذنين بالأذان باللغة التركية بدلا من العربية. إن مثقفًا مثل أتاتورك يعلم يقينًا أهمية اللغة في تكوين الهوية الوطنية والشخصية القومية، لهذا كان قراره بتتريك الأذان مثله مثل القرارات الأخرى بتتريك اللغة والتعليم قرارات سياسية هدفها امتلاك الخطاب الديني العام إن لم ينجح في تحييده وخصخصته.
أما مصر، فهي كواحدة من أقدم الدول المركزية في التاريخ، قدمت حلًا مركزيا لمشكلة الصراع على الأذان هو “الأذان الموحد”. والمقصود باالأذان الموحد ربط المساجد بدائرة إذاعية داخلية، عبر صوت مؤذن واحد في كل مدينة على حدة. ولا زالت مسألة الأذان الموحد تثير الجدال في مصر، وقد اعترض عليها بعض ممثلي السلفية بحجة أن ذلك مخالف لسنة النبي، متناسين أن رفع الأذان عبر الميكروفون مخالفة لسنة النبي أيضًا، هذا إذا تمسكنا بنفس المنهج الحرفي في فهم النصوص.
لكن، إذا كان هدف الدولة من الأذان الموحد هو استعادة سيطرة الدولة على ميكروفون الجامع، فإن هذا لا يرضي ليبراليي مصر وعلمانييها، الذين لا يجدون فيه حلًا لتغوّل الخطاب الديني المسيس في المجال العام، لهذا يطالبون بمنع رفع الأذان عبر الميكروفون والحفاظ على خصوصية الشأن العبادي وفرديته بحصره داخل الجامع فقط.
خلف كل هذا تبدو مشكلة الأذان الإسلامي تكريسًا لظاهرة تقديس غير المقدس، كما حدث مع شؤون دنيوية متغيرة أخرى، تحولت مع الزمن الى مقدسات. تقول المرجعيات التراثية الإسلامية أن الأذان ليس وحيًا من الله، ولكنه اقتراح قدمه أحد الصحابة “عبدالله بن زيد”، لدعوة المسلمين للصلاة بعد أن زاد عددهم. وقد أقر الرسول هذا الاقتراح في مجتمع بسيط لم يكن يعرف وسيلة أخرى لتحديد أوقات الصلاة.
لكن في عالم اليوم، حيث تتوفر الساعات والمنبهات في كل مكان، ويمكن للتطبيقات الالكترونية تنبيه المسلم لمواعيد الصلاة أينما كان دون إزعاج الآخرين، يبدو الإصرار على استمرار الأذان تمسكًا بأسلوب بدائي في زمن التكنولوجيا الفائقة. هكذا ترى بعض الأصوات أنه لم يعد هناك حاجة للآذان ليس فقط لأنه ليس شعيرة دينية، وإنما مجرد اجتهاد بشري لصحابي عاش قبل 14 قرنًا، ولكن لتجنب كل الصراعات السياسية والطائفية حول الأذان الذي صار أداةً من أدوات التطييف والتسييس وصراعات السيطرة على المجتمعات المسلمة.