علي عبد الله صالح، لون خاص في صورة الزمن العربي، عرفته في مختلف حالاته، جلست معه مطولاً نتحدث في الأمور السياسية والاجتماعية اليمنية، صوته المتعدد الدرجات بلهجته اليمنية القريبة من لهجتنا الليبية، تكاد ترى فيه ملامح شخصية اليمني بربطة رأسه وخنجره الممتد من الصدر إلى ارتفاع البطن.
مرت العلاقات الليبية اليمنية بحلقات مختلفة، لكنها حافظت على درجة حرارة لا تفقد سخونتها. التقينا في طرابلس وصنعاء، لم تخل من العتاب، لكنه كان دائماً يتقن فن رتق الخرق. كلما التقيته طاف بذهني شيئان: الأول: حديث زكريا عزمي وزير شؤون رئاسة الجمهورية للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك. قال زكريا عزمي: كنت ضابطاً في حرب اليمن برتبة ملازم آمر دبابة ومعي نائب العريف اليمني علي عبد الله صالح مهمته تلقيم الذخيرة، بعدها أصبح رئيساً لليمن ويزور مصر مقابلا الرئيس مبارك، أستقبله على الباب وأرافقه إلى حيث يجلس الرئيس، بعد التحية بين الرئيسين يبادر الرئيس صالح بالثناء عليّ ودوري البارز في المعارك، أقوم بدوري بكيل المديح له على شجاعته وقدراته العسكرية بصفته (ضابط) مدرعات، ويتكرر ذلك الحديث المفتعل في كل مرة.
والحقيقة التي يستحيل قولها أمام الرئيسين، أنني كنت أقرع نائب العريف في تلك الأيام الخوالي على قلة كفاءته بأشد الألفاظ. الثاني: كان لي زملاء وأصدقاء كثر من اليمن أثناء دراستي بجامعة القاهرة، وبعد تخرجهم وعودتهم إلى اليمن، اتهم عدد منهم بالتورط في مؤامرة ضد النظام وتم إعدامهم. كان من بينهم شباب متفوق ومؤهل للقيام بدور مهم في بناء وطنهم اليمن. علي عبد الله صالح كان من إفرازات مرحلة عربية قلقة في كل شيء، السياسة والثقافة والاقتصاد.
كانت الانقلابات العسكرية الطريق الأسرع للقفز على السلطة، ومعها فيروس الزعامة والقيادة العابرة للحدود. هيمنت تقنية البقاء على كرسي السلطة على كل ما عداها، وقلما طُرحت برامج التنمية على موائد الحكم. مأسسة الدولة التي هي المحرك العملي والفعلي لتفعيل قدرات الوطن نحو التقدم، اعتبرت الثقب الأوسع الذي ينفذ منه المتآمرون للاستيلاء على سلطة الزعيم الفرد وهو المركز الذي يحرك ما كبر من الشؤون وما صغر. اليمن جيولوجيا طبيعية وبشرية فريدة في تكوينها التاريخي والاجتماعي والديني. الجبال ليست تكوينات صخرية تمتد فوق الأرض، لكنها صلابة تنغرس في الرؤوس والأجساد.
حسابات الحياة والموت لها أرقامها الخاصة في بلاد اليمن. قيل، إن الحكمة يمانية، نعم لكنها لليمنيين وحدهم. فاليمن كون لا يشبهه كيان آخر. تتداخل امتدادات التاريخ مع حركة الخطوات اليومية للحياة فوق الأرض. القبيلة نسيج لا تبلى خيوطه، بل تنساب في كل حقبة فكراً وحركة وفعلاً في السياسة والاقتصاد والعلاقات بين البعيد والقريب. قوة أي زعيم سياسي ترتكز على فهم كيمياء هذا الإناء الاجتماعي الهائل.
الرئيس الراحل علي عبد الله صالح العسكري البسيط، تفوق على من هم أعلى رتبة عسكرية وعلمية وفكرية منه بقدرته الاستثنائية على التعامل مع خيوط هذا النسيج (القبيلة). قادة اليمن الجنوبي السابقون الذين عدّوا أنفسهم من طلائع الماركسيين، توهموا أنهم سيقفزون باليمن الجنوبي إلى عالم آخر عبر أوهام الطبقية والاشتراكية، نحروا بعضهم على مائدة الجدل والصراع على التفسيرات الفكرية، وعلى كراسي السلطة. ركض إليه من تبقى منهم على قيد الحياة هروباً من الموت وطمعاً في بقايا سلطة والدخول إلى التاريخ عبر بوابة تحقيق الوحدة اليمنية الحلم. رقص معهم العسكري البسيط قليلا، ثم دفعهم عنوة إلى خارج الحلبة.
اليوم، غادر علي عبد الله صالح حلبة الحياة مقتولاً بسلاح الحوثيين، الذين خاض معهم حروباً متواصلة لسنوات. تحالف معهم متسلحاً بمعرفته بجغرافيا الأرض والبشر، لكنه لم يدرك المواد العقائدية والتاريخية المكونة لهذا الجسم الحوثي، بعد موافقته على المبادرة الخليجية، وتنازله عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي بمباركة إقليمية ودولية، تحالف مع عدوه الحقيقي الحوثيين معتقداً أنه قادر على استعمالهم إلى حين لتصفية حسابات مع قوى يمنية انتمى إليها، وكانت هي المعبرة عن الهوية الحقيقية للشعب اليمني. هل يمكن لليمنيين العرب أن يقبلوا أن تختطفهم قوى طائفية إلى خارج كونهم وتكوينهم عبر هرطقات طائفية إلى التبعية لإيران؟ تلك كانت – غلطة الشاطر؟! – التي قفز إليها الراقص فوق رؤوس الأفاعي وخناجر الصراع. أراد أن يصطاد بالحوثيين من لم يستطع الرقص فوقهم.
ومن يجعل الضرغامَ بازاً لصيده تصيّده الضرغام فيما تصيدا ضرغام صالح ليس ضرغام المتنبي بالطبع. الحوثيون بتكوينهم القديم والجديد، لا يمكن التحالف أو حتى المهادنة معهم، من لا يتفق معهم هو بالنسبة لهم عدو مبين. حرفوا المذهب الزيدي الذي ليس فيه ما يخالف المذاهب السنية، كي يمشي فوق كوبري طائفي يصلهم إلى ولاية الفقيه (الوصفة السياسية العقدية الإيرانية)، ولتحويل اليمن العربي إلى نتوء طائفي دموي تابع لإيران.
لقد اصطاد الحوثيون علي صالح حين اعتقد أنه قادر على تحويلهم إلى باز في يده، يصطاد به أهدافاً سياسية مرحلية منطلقاً من مدرسة سياسية بناها بعقله في رأسه، عبر تجربة مديدة ومعرفة بجيولوجيا اليمن أرضاً وبشراً، لكنه جهل أحشاء هذا المكون الذي لا يؤمن بالمشاركة والمهادنة. اليمن اليوم فوق جسر جديد، حجارته وحديده من معدن قديم هو قوة اليمن العربي. لقد أصبح (الضرغام) في قفص المواجهة الحقيقية مع الهوية اليمنية، ليس بحسابات سياسية أو عسكرية فحسب، ولكن بجبال اليمن من الصخر والبشر، وذاك هو الضرغام الحقيقي.