من كان يتخيل أن وسائل التواصل الاجتماعى ستتحكم بحياتنا إلى هذا الحد. ومع تطور الهاتف الذكى وبرامج التواصل الخلّاقة، صار الأمر أكثر يُسرا ورشاقة، نرسل تحايا الصباح والأعياد ونرفق للاعزاء وردة وقبلة افتراضية، وذلك كل ما غدا ممكنا لصون ما تبقى من علاقات اجتماعية.
وشيئا فشيئا قلّت الزيارات بل وانعدمت، وحتى اتصال صوتى ما عاد ممكنا، فى زحمة حياة جافة إنسانيا، مزدهرة تكنولوجيا، صار نسق الحياة وترابطها لا يزيد على مجموعة فى تطبيق (واتساب).
كل أسرة لها مجموعتها العائلية، تنقل سلاماتهم وترسل قبلاتهم، وتتساقط أخبار من تعرف عبر حساب إلكترونى فى سماء العالم الإفتراضي.
تنشر الأخبار فتعرف أين ذهب فلان أو أين قذفت به الدنيا. تُنشر التعازى، وتهانى الأفراح على حسابات الأقرباء، فتجتمع الوجوه، وتسقط واجبها عبر عبارات عابرة، ورسوم غريبة وتنتهى الحياة بغرائبية أكثر.
أفقدنا هذا الفضاء الافتراضى حضن الأحبة ولمسة أياديهم. وزاد فينا الحنين لسماع خطو أقدامهم على عتبات منازلنا. أفقدنا ضجة اللقاء وزحمة الأحضان، وبهجة رؤية عصافير الفرح تقفز من قلوبهم، ولحظة الشجن ونحن نرقب رقرقة دمعة العين الملهوفة باللقاء. كنا نسرف بالاتصال عبر الهاتف الأرضى المسحوب بسلك يجوب البيت، ونجرى فى أرجاء منزل مكتظ بالبشر، نجرى سبقا لرفع سماعة الهاتف ونرد، فالحقيقة أن الصوت هو العناق الأول للبشر، ولا يبقى فى الذاكرة أكثر وقعا وألما مثل صوت من نفتقدهم. لذا كان شكل جهاز الهاتف العتيق فى ركن المنزل له هيبته، وضمن ديكور المنزل الأساسى.
الآن ماعاد المرء يتذكر رقم الهاتف الأرضى هذا، ولا حتى موقعه فى منزل قصى غارق بالصمت، وزادت ظروف الحياة المتنقلة بين القارات، من صعوبة أن تجد وقتا وجهدا فى سماع أصوات الأحبة فى كل حين، ناهيك عن لقياهم وصخب تجمعهم . حياتك معلقة بهاتف نقّال لا أكثر. فقدنا الذاكرة بعد أن كنا نتباهى بحفظ أرقام كل الأصدقاء وأهل الحارة كلها، الآن يسألك المرء عن رقم الواتس الخاص بك فتنتظر تبحث عنه فى حافظة الهاتف لا فى تلافيف ذاكرتك.
هذا الهاتف الجوال هو هويتك وفيه كل ملفاتك وخصوصياتك، إذا فقدته فستحتاج معجزة لتُعّرف الآخرين بمكان موقعك بل ومن تكون . لم نعد مواطنى بلدان لها نشيد وعلم وشهداء وتاريخ، بل أصبحنا مواطنى شركات عابرة للأوطان. أنت تتبع شركة عابرة، وبصمة صوتك محفوظة على قطعة هاتف ذكى صنع فى أمريكا أو الصين أو كوريا، لا فى أرشيف مصلحة الأحوال المدنية.
شركات تعرف كل خلجاتك وليس فقط بيانات عمرك وعنوانك، فهذه شريحة بقطعة حديد فيه رقمك، وهو كل ملف عمرك المبدد بين حروب العشائر. محفوظ لدى الشركة التى لا تحتفظ ببيانتك فقط، ولكن حتى بما يتردد فى ذهنك من أفكار، وبما فى نفسك من رغبات. فكر وتحدث فى أى موضوع أمام هذا الهاتف، ثم عُد إلى فضاء الإنترنت ستجد سيلا من المعلومات والإعلانات تتدفق وتعيد إليك ما كنت تتحدث عنه، بل وتفكر فيه!.
أنت مواطن مستباح عالميا، من جميع أهل سطوة قوة المعرفة. مكشوف لكل منصة استهلاك عالمية، لكنك شخص بعيد ومنغلق على مستوى العائلة، التى صارت تراك من خلال عبارات جاهزة معلبة، وورود مرسومة ببشاعة، صُمّمت للتواصل الافتراضي. فحتى الزهور الجميلة اختفت من حياتنا، صرنا اشكالا مرسومة ببرنامج على الهاتف، ورقما يتلاشى لا أكثر.
هذا عالم موحش بفراغه، غريب بجنونه، جعل الكون قرية صغيرة تراها من خلال شاشة هاتفك، وجعلك أبعد ما تكون عن محيطك الصغير الفعلي. لا تسمع همس من حولك ولكن تشدك صرخات مجنونة عابرة للمحيطات، وعندما تفتش حولك تجد هذا العمر تسرب كما هو فى سراب شاشة صغيرة، وكأنه مجرد بخار بطيء لا رائحة له. وها أنا مثلا خلال ثلاثة أعوام لا غير كنتُ فى مشهد موجع مع هذا الفضاء الافتراضى، وتجربة صغيرة فى الواقع، كبيرة فى الأثر.
أنشأنا مجموعة تواصل مغلقة، قلة من أصدقاء العمر ورفاق الدرب، انقضى العام الأول وإذ بالدرب يقصر، والمجموعة تضيق، ويُغّيب الموت نصف المجموعة بشكل متلاحق عجيب، ويغادر بعضها المكان ضمن هجرات شتات لا ينتهي. وكم يحز فى النفس وانت تقرأ بهاتفك، تلك العبارات الباردة عن تلاشى الحياة وتبخر العمر، مثل فلان غادر المجموعة، وفلان غيّر رقمه، وآخر صار رقما هامدا لا تعرف أين ابتلعته بحار البعد والصمت. ثم تغلق المجموعة بعبارة تقول بجفاء : أنت المشترك الوحيد !.
الكاتب سفير اليمن في المغرب
نقلا عن جريدة الاهرام المصريه