محاولات إعادة تشكيل المنطقة العربية وقوى النفوذ فيها أمر مستمر ولا يتوقف ، ومنذ عقود تبقى هذه الجغرافيا، الممتدة من البحر إلى البحر، محورا أساسيا للصراع والمطامع. كانت بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا والاتحاد السوفيتي، وغالبا الصين قادمة مع قوى إقليمية طامحة. ولهذا نبقى فى عين العاصفة ضحايا عبقرية المكان على وصف جمال حمدان .ومنحوسى لعنة الثروات المدفونة.
ومؤخرا عندما أطلق مشروع الشرق الأوسط الجديد، قبل خمسة عشر عاما، برزت أفكار التغيير للمنطقة مجددا بقوة وكانت واحدة من أكثر الخطوات المعلنة، لضرورة إحداث تغيير فى الأنظمة، أو الجغرافيا نفسها وربما هى الخطوة الأكثر وضوحا بعد سايكس بيكو، ولكن جاءت عواصف كثيرة تطيح بأشرعة مراكب السياسة، واختفى المشروع مع اختفاء الإدارة الأسبق فى البيت الأبيض، وبقيت آثار الفوضى الخلاقة، تخلق لنفسها تعرجات يبدو أنها سيطول أمدها لبعض الوقت .ولكن السؤال هل من الممكن خلق جغرافيا جديدة فى المنطقة العربية حقا؟ وهل ما يعلن صراحة عن مشاريع التقسيم ، سيصبح واقعا؟.
ربما لا يعرف الكثير من شباب هذا الجيل أنه قبل خمسة عقود فقط ، كانت هناك جغرافيا مختلفة، غير التى نحن عليها الآن، وخرجت بريطانيا وفرنسا وقد صنعتا واقعا، يراه الجميع الآن من الثوابت التاريخية، بينما هو كان مشروعات دوائر وأشخاص قابلة للموت فى أى لحظة يقظة مجتمعية، وقبل ذلك كان واقعا آخر. كنت فى ندوة للشباب وسألت هل هناك من يعرف أن منطقة عربستان أو الأحواز وهى المنطقة الممتدة بين العراق وإيران كانت دولة لها كيانها وعضوة فى عصبة الأمم؟ ولم يجب أحد، ورأيتنى انقل السؤال بشكل أعم هنا لهول صدمة المعرفة المشوشة والغائبة لدى جيل ذهب وآخر قادم.
نعم ذلك هو إقليم الأحواز أو إقليم عربستان الواقع فى أقصى شمال الخليج العربى ما بين البصرة غرباً وسلسلة جبال كردستان شرقاً ويحده من الجنوب الخليج العربى وشمالاً سلسلة جبال لورستان ويضم الإقليم عدة مدن أهمها الأهواز والمحمرة والفلاحية ودزفول وتستر ورامز وعبادان وبهبهان.
وحتى ندرك لماذا تم التهامه من قبل طهران ويحاصر بكل هذا الصمت فقط نعرف أن الإقليم ينتج 70% من نفط إيران. ولنا أن نتخيل حال آخر أمراء هذه الدولة الشيخ خزعل بن جابر الكعبى أمير عربستان الذى كان حتى الربع الأول من القرن العشرين، ملء السمع والبصر تأتيه الوفود طالبة الرأى والدعم، ويقدم النصح حتى إن الشيخ أمين الحسينى جاءه لدعم ترميم القدس ولم يخيب الرجل ظنه. وحسب ما تذكر سطور التاريخ الحديث المنشور فقد كان يعد الشيخ (خزعل الكعبى من الشخصيات العربية المثيرة للجدل فى تاريخ العرب الحديث، إذ أنه لعب دورا رئيسيا فى أحداث الخليج العربى فى الربع الأول من القرن العشرين، وساهم مساهمة فعالة فى أحداثه، واحتل مكانة مهمة بين أمراء الجزيرة العربية. وتأتى أهميته من أن إمارته شهدت أياما وأحداثا غاية فى الأهمية، فقد شهد تفجر النفط وتبلور المصالح الأجنبية فى منطقته، وشهد قيام الحرب العالمية الأولى، وعـدّ موقع إمارته الاستراتيجى خطيرا إبانها، كما شهد انهيار الحكم القاجارى فى إيران وقيام الحكم البهلوى محله، ذلك الحكم الذى احتل الأحواز و أطاح بحكمه.)
وذات أيام خلفت بريطانيا وعدها للشيخ المدلل وقررت تغيير الجغرافيا وصار فى 1925 أسيرا محاصرا بقوات الخان رضا بهلوى القادم من طهران، وخذلان الحلفاء الإنجليز وتشظى الموقف العربي، فذهبت الدولة بسبب مطامع الشركات وتنامى اكتشافات النفط الذى جاء لعنة، ونسى العرب شكل تلك الجغرافيا، وتعمدت كل القوى النافذة رسم خريطة جديدة لا يذكر بها أن هناك كانت دولة ذات يوم بعلم ونشيد وعضوية فى عصبة الأمم التى سبقت الأمم المتحدة وقتل أميرها بعد عشر سنوات قرب نهاية الثلاثينيات أى نفس سنوات مولد معظم الحكام الحاليين!. ورأيت ذكر هذه الشخصية وأنا أقلب السؤال حول إمكانية أن يرى جيلنا خلال السنوات العشر القادمة تغييرات جذرية فى جغرافيا الدول والحدود وليس فقط الأشخاص ! . من ظهور دول وتقزم أخرى!. والأمر ليس خيالا، فدوامة الصراع على أشدها ومن أبرز ملامحها صنع واقع جديد.
ولا ننسى أن مسمى الشرق الأوسط الجديد منذ عقد فقط أطلق يومها وضم إلى المنطقة العربية دول أفغانستان وباكستان وتركيا وأخرج دولا عربية من العالم العربى على أساس انها افريقية، وهى واحدة من المحاولات لصنع واقع مختل الخوف انه قابل للإحياء فى ظل موت الأمة . والآن يرسخ صراع حاد على أسس مذهبية وعرقية أشد خطورة، مع تنامى أصوات شديدة العداء لأى تقارب عربي، أو حتى استقرار عربى . بل ضرب حتى مشروع الدول الوطنية فى المنطقة العربية. لتجد نفسك فى خضم نقاشات عن الأصول وقدسية الجغرافيا، وشكل الحدود الممكن إعادة صياغتها من تفكيك الدول العربية، حسب نزاع الصراعات السياسية والدينية، ومصالح غاية بالضيق وانعدام الأفق.
أنا على يقين من صلابة الانتماء والتماسك لهذه الأمة مهما يتبد عليها الآن مظاهر الوهن والضعف والتشرذم. ولكن قرع جرس الخوف من حالة الانهيار المتداعية ضرورة نحتاجها، فالنهوض العربى القائم على الانفتاح نحو العصر وتعزيز المصالح المشتركة، بحاجة إلى مشروع يلائم الحاضر الصعب ويخرجنا من دائرة التردى فلامناص من نهوض هذه الأمة والتحاقها بركب عصر صار يتجاوزها حتى لا نبقى خارج التاريخ ثانية بل خارج الجغرافيا هذه المر
نقلا عن جريدة الاهرام المصريه
الكاتب سفير اليمن في المملكه المغربيه