تحضرني هذه الحكاية كلما كان هناك نقاش في الأدب ويتقاطع مع السياسة. اعني هنا حكاية أول رئيس للبنان بشارة الخوري وتشابه اسمه مع الشاعر بشارة الخوري الشهير باسم الأخطل الصغير.
كان الرئيس اللبناني بشارة الخوري وهو من زعماء الاستقلال ورجال الوطنية اللبنانية يزور إحدى القرى اللبنانية عندما انبرى له مواطن يعقب على خطابه فقال له :
– يارئيس بشارة الخوري نحن نعرفك ليس كرئيس فقط ولكن كشاعر وأديب ونحفظ شعرك.
وهنا خلط المواطن بين الرئيس بشارة الخوري والشاعر بشارة الخوري. وبسبب هذا الخلط قام أحد رجال الحاشية بنهر المواطن والتوضيح له بأن الرئيس بشارة الخوري غير الشاعر، ويشعر المواطن بخطئه الفادح مقللا من مكانة الشاعر أمام الرئيس الذي تشابه اسمه مع شاعر بلده.
إلا أن الرئيس بشارة الخوري رد بسرعة واحترام: بإمكان لبنان أن يأتي برئيس كبشارة الخوري الرئيس كل خمس سنوات مرة لكنه لا يمكن أن يأتي بشاعر مثل بشارة الخوري الشاعر إلا مرة واحدة.
ونسي الناس خطابات السياسة وبقي عالقا في الذاكرة ما أُنصف به الأدب ولا تزال قصائد الأخطل الصغير تضع لبنان كبيرا في ذاكرة العشاق ومولعي الكلمة.
فمن ينسى أجمل كلمات العشق وأعذب الألحان الموسيقية التي قدمت لقصائد بشارة الخوري صاحب أجمل قصائد الرومانسية مثل (جفنه علم الغزل والتي خلدها لحن وصوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وقصيدة عش أنت إني مت بعدك التي ابكت فريد الأطرش لحنا وأداء وقصيدة اضنيتني بالهجر – وكذا قصيدة أتت هند تشكو إلى أمها فسبحان من جمع النيرين، والتي لحنت باليمن في الأربعينيات من الفنان عبدالقادر بامخرمة وأعادها الفنان أحمد فتحي مؤخراً).
لتتأكد حقيقة أن تقدم البلدان وألق حضورها لا يقاس فقط بامتلاك القوة وتكنولوجيا الحرب ولكن بالإسهام الحضاري الذي يبقى في ذاكرة الإنسانية علما وإبداعا.
ولذا رأينا كيف توقف نبض العالم وهو يرقب موكب نقل ملوك مصر القدماء من متحف التحرير إلى متحف الحضارات.
كان الموكب مهيبا وهو يستحضر خمسة آلاف عام من الشموخ والفن وأعاد الموكب الاعتبار ليس فقط للتاريخ وللملوك ولكن للإبداع من علماء وفنانين وضعوا سرا للبشرية من آلاف السنين ولا يزال معجزة تبهر البشر .
فبلد لا يحمل إرثا ثقافيا ولا مجدا فنيا سيبقى غابة من الأسمنت بحاجة إلى معجزة فنان تعطيه ألق الحياة وتجعل حجارته عالقة في عيون الناس وذاكرتهم.
ورغم جنون التكنولوجيا وتسارع طبول الحرب في كل مكان فإن هذا العالم الملهوف على اليورانيوم لا يخفي شغفه في محاولة لاحتكار أعظم المسارح وأرقى متاحف الفنون والتباهي بحياة كبار الكتاب في مدنه
حيث لاصفة للتقدم الحضاري إذا حصرنا الأمر بمعامل الحديد والصواريخ العابرة للقارات فخلود الحضارات بقي بما قدمه العقل من علوم تعزز السلام وتحافظ على حياة البشر وتهذب روح الإنسان.
أما جانب التقدم المدمر بقي دوما في دائرة التوحش الذاهب إلى زوال من العصر الحجري إلى تفوق المغول والتتار وحتى دول الاستعمار الحديث, ولا يبقى في ذاكرة الإنسانية إلا إبداع عالمٍ أنقذ الناس من مرض أو إبداع كاتب وفنان أعطى الحياة ألقها الذي تستحقه.
لهذا أكد العالم أن كل مَعلم حضاري هو إرث للبشرية وليس حكرا على شعبه الذي أبدعه وحده بل يصبح الأثر الفني مثل الفكرة المضيئة والفرحة الجميلة ملك كل من وصلت إليه لتعيد للإنسان توازنه الذي يحتاجه وترفع من قيم النبل والمحبة في روحه.
وذلك ما تحس به وأنت تسير في شوارع وسط القاهرة أو بين أزقة صنعاء ودمشق وبغداد أو مقاهي باريس ومتاحف روما فهناك أنفاس شعراء وهمسات موسيقيين، وأجيال من المحبين تركوا بصمتهم في روح الإنسان عبر العصور.
والبلدان التي ما زال فيها العلم مكرما والفنان مقدرا تلك بلدان تنجو من دوائر العنف، وتضمن مستقبل البهجة لشعوبها، فالرخاء الاقتصادي قدم واحدة يقف عليها المجتمع الذي يحتاج لقدمه الأخرى من الإبداع والفن ليقف سويا في مسار الحضارة.
لهذا فإن إعادة الاعتبار للكتاب والإبداع في بلداننا سيبقى أبرز مؤشر للخروج من دوائر الرتابة والعنف.
وأولى الخطوات تكون بإعادة الاعتبار للمبدعين وتعزيز فضاء يضمن بناء العقل وحرية الفكر.
ورغم محاولة الثورة التكنولوجية المثيرة للرعب والتي تجعلنا نتخيل للحظة أن كل قيم المشاعر الإنسانية ستختفي ويحل محلها عالم من الريبوتات والأزرار الصماء فإن كل خيال علمي وتقدم بشري سيبقى بحاجة إلى توازنه في ترقية الفنون والذائقة وإلا فإن التوحش هو النمط الذي سيسود الكون.
وسيبقى الحال كما قال الاخطل الصغير ذات يوم وحلق به صوت فيروز في واحدة من أجمل قصائده:
يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً
كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا
سفير الجمهورية اليمنية لدى المغرب
نقلا عن الاهرام المصريه