سواء كنت غائصاً في ظلام شاشة السينما الحالك، أو متكئاً على الأريكة في المنزل تشاهد مسلسلاً على «نتفليكس» أو «أمازون برايم»، سيدهشك حتماً ذلك المشهد الذي عادة ما يكون في نهاية العرض لطائرة من دون طيار (درون) وهي تحلق في السماء مستهدفة زعيم تنظيم إرهابي، أفقدك وعشرات الآلاف من المشاهدين أعصابكم منذ قررتم متابعة ما يحدث، ولعل أبرز المشاهد تلك التي يتلقى فيها الإرهابي المُستهدف مكالمة من البطل الذي يصوره لك مخرج الفيلم في المشهد قبل الأخير، ومشهد الصاروخ الذي ينفجر إيذاناً بنهاية العرض.
ولعل قيادات تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» في اليمن هذه الأيام يشغلهم السؤال الذي يشغل المشاهدين بعدما ينتهون من مشاهدة الفيلم أو المسلسل؛ إنه السؤال الأكثر قرباً لما يحصل في الحقيقة، بعيداً عن تلك المكالمة التي لا تحدث، أو كل الخدع الهوليوودية المستخدمة في العرض.
«ماذا ستفعل إذا كنت قيادياً في جماعة إرهابية في اليمن، أو في أفغانستان أو باكستان، وعرفت أو اشتبهت بأن زعيم الجماعة الإرهابية التي تنتمي إليها قُتل؛ ماذا ستفعل أنت والقيادات الأخرى؟». الإجابة الوحيدة هي الترتيب لما بعد ذلك الزعيم الذي غالباً ما يقضي نتيجة ضربة جوية أميركية.
هذا ما ذهب إليه محللان يمنيان تحدثت إليهما «الشرق الأوسط» في أعقاب الأنباء الغربية والعربية التي تداولت استهدافاً بـ«درون» أميركية في مأرب لقاسم الريمي زعيم تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب»، وأبرز المدرجين في القائمة السوداء للتنظيم لدى السعودية والولايات المتحدة ولجنة العقوبات الخاصة باليمن في مجلس الأمن.
وقد يكون تأخر الإدارة الأميركية في إعلان مقتل الريمي يرجع إلى عدم تأكدهم التام مع تحليل الحمض النووي (DNA). ولو كان أي مسؤول في العالم مكان الإدارة الأميركية لفعل مثلما فعلوا، ولذلك سبب آخر أيضاً. فالباحث السياسي اليمني البراء شيبان يستذكر أن الريمي جرى إعلان استهدافه نحو خمس مرات سابقة.
ومن اللافت أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتشوق إلى معرفة النتيجة النهائية ليعلن مقتل الريمي كما أعلن مقتل أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم «داعش» الإرهابي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ومقتل قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» الإيراني مطلع العام الحالي، إذ أعاد الرئيس ترمب تغريدات مراسلين وباحثين تحدثوا عن أنباء استهداف زعيم تنظيم «القاعدة» في اليمن. ولم يغرد حتى لحظة إعداد هذا التقرير (الثامنة مساء بتوقيت غرينتش).
وقبل التوغل في مسألة ما بعد الريمي، تجدر الإشارة إلى حديث أجرته «الشرق الأوسط» عبر الهاتف مع محافظ مأرب سلطان العرادة أمس، إذ قال إن الأيام العشرة الماضية شهدت ضربتين بالدرون على موقعين (منزلين) مختلفين في مأرب، والسلطات الأمنية لم تستطع معرفة هوية المستهدفين داخل المنزلين من شدة الضربات، لافتاً إلى أن المحافظة تشهد ضربات عديدة بصواريخ الحوثيين الباليستية وقذائف الكاتيوشا الحوثية، «مما جعل الأمر ملتبساً على الأجهزة الأمنية في تحديد ضربات الدرون من غيرها».
لماذا الآن؟
كانت السعودية – وهي أبرز دولة حاربت تنظيم «القاعدة» داخلها إلى أن طردته بشكل كامل – أول من أدرج الريمي على قائمة مطلوبين إرهابيين في عام 2009، وهو العام الذي نشأ فيه تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» بعد أن وجد في السعودية أرضاً صلبة صعبة، وبناء على توصية بن لادن، وفقا لوثائق كشف عنها سابقاً، وجد التنظيم في اليمن ملاذاً يلهم الإرهابيين سيما أن أبرز عملياتهم نفذوها هناك عندما استهدفوا المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» في 12 أكتوبر 2000. وأدرجت الولايات المتحدة الريمي عام 2010 على قائمة المطلوبين، وفي عام 2015 عندما تولى قيادة التنظيم خلفاً لناصر الوحيشي الذي قتل بـ«درون» أميركية في يونيو (حزيران) ضاعفت واشنطن مكافأة من يدلي بمعلومات عنه من خمسة ملايين دولار إلى عشرة ملايين دولار.
وتتهم واشنطن الريمي بتدريب الإرهابيين في أحد معسكرات تنظيم «القاعدة» في أفغانستان في تسعينات القرن الماضي، «وعاد بعد ذلك إلى اليمن وأصبح قائدا عسكريا، حكم عليه بالسجن خمس سنوات في عام 2005 في اليمن للتآمر على اغتيال سفير الولايات المتحدة لدى اليمن، وهرب في عام 2006، ورُبط بهجوم شهر سبتمبر (أيلول) 2008 على السفارة الأميركية في صنعاء الذي أسفر عن مقتل 10 حراس يمنيين، وأربعة مدنيين، وستة إرهابيين»، ويذكر برنامج الجوائز الأميركي لمن يدلي بمعلومات عن المطلوبين بأن الريمي يرتبط أيضاً بمحاولة التفجير الانتحاري الذي حدث في ديسمبر (كانون الأول) 2009 «لمهاجم الملابس الداخلية» عمر فاروق عبد المطلب على متن طائرة ركاب متجهة إلى الولايات المتحدة، وفي عام 2009 اتهمته الحكومة اليمنية بإدارة معسكر تدريبي تابع لتنظيم «القاعدة» في محافظة أبين جنوب اليمن.
ماذا بعد الريمي؟
تعتقد ندوى الدوسري، الباحثة اليمنية المتخصصة في شؤون القبائل والصراع، أن «مقتل الريمي يعتبر ضربة كبيرة لـ(القاعدة)». وتقول إن «التنظيم ضعف كثيراً منذ أن قتل أهم قياداته في اليمن»، في حين لا يرى البراء شيبان أن تغيراً جوهرياً سيحدث؛ «لأن (القاعدة) منذ فترة كان يحاول تهيئة نفسه بأنه لو حصلت مثل هذه الضربات فهناك البديل الجاهز، وأن التنظيم لن ينتهي بمجرد مقتل قائد»، مرجحاً أن يكون المطلوب خالد باطرفي مرشحاً لقيادة التنظيم إذا صحّ مقتل الريمي.
ويذهب شيبان إلى ما هو أبعد من مجرد تولي قيادة للتنظيم. ويقول: «المشكلة التي يواجهها (القاعدة) الآن أن الرعيل الأول من القيادات كان ما يميزهم فقط أنهم كانوا مع زعيم التنظيم الأم أسامة بن لادن، فالوحيشي كان حارس بن لادن على سبيل المثال»، مضيفاً: «الأهم هو وجود شخص يربطهم بحقبة أفغانستان وهي فترة صعودهم، وعادة هناك بعض المتضامنين القلائل مع هؤلاء ولو كان ضئيلاً».
«رغم الحرب المستعرة في اليمن فإن هناك تضييقاً على تنظيم (القاعدة) بعكس ما كان يعتقد، لأن التنظيم حاول استغلال الفراغ الأمني والسياسي الذي أحدثته الحرب، لكن واضح أن عمليات التنظيم تُحاصر وجرى تقليصها وأخيراً الاستهداف للقيادات حتى وصلوا إلى الرأس وهو قاسم الريمي»، يقول شيبان، مضيفاً: «يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية تريد أن تؤكد – مثل أي إدارة سابقة – أنها قادرة على استهداف (القاعدة) والقيادات الكبرى للتنظيم خصوصاً عند اقتراب الانتخابات».
ولكن متى ينتهي تنظيم «القاعدة» في اليمن؟ سألت «الشرق الأوسط» وأجاب الباحث السياسي اليمني بالقول: «لن ينتهي، لأنه مرتبط بوجود مؤسسات إنفاذ القانون (شرطة مخابرات جهاز قضائي وسلطة محلية) وهي ضعيفة في اليمن. إذا استعادت الدولة نفوذها الكامل ستقلص بالتأكيد عمليات التنظيم بشكل سيكون ملحوظاً»، وتابع: «هناك عوامل خارجية لا تتحكم فيها الحكومة اليمنية أو صانع القرار اليمني وإن كان قوياً، مثل الوجود الأميركي في المنطقة، ووجود التنظيم أو الفكر الأم الذي ما زال حياً.. هذه عوامل تجذب الإرهابيين للبقاء وإعادة تدوير أسطوانة الاستقطاب».
وترى ندوى الدوسري أنه لا جدوى من الحديث عن «القاعدة» من دون إنهاء الحرب وسطوة الحوثيين على اليمن، ومن دون حكومة يمنية وقيادات غير مرتهنة للفساد ولأطراف خارجية. وتقول: «(القاعدة) حاول أن يستغل ظروف الحرب في اليمن واستطاع بالفعل في البداية أن يتوسع في بعض المدن مثل حضرموت وعدن وتعز. كان دخول الحوثيين في هذه المناطق العامل الأكبر في توسع (القاعدة) في هذه المناطق، ولكن مع خروج الحوثيين انحسر دوره بشكل كبير. (القاعدة) في اليمن يتغذى على الظلم والفوضى». تضيف الدوسري: «(القاعدة) أيضاً ليس بمعزل عن مشهد الصراع فقد استخدمه (الرئيس السابق) علي عبد الله صالح وأطراف أخرى لإضعاف منافسيهم السياسيين، وهذه الممارسة لا تزال قائمة»، وزادت الباحثة اليمنية بالقول: «(القاعدة) لا يزال ضعيفاً في اليمن وهو تنظيم غير مرحب به في أوساط المجتمع والقبائل، فالمجتمع اليمني مجتمع متسامح. لكن توسع الحوثيين عسكرياً وجرائمهم المستمرة ضد أبناء المناطق الشافعية وتبنيهم أجندة سلالية طائفية قد يسهم في خلق صراع طائفي غريب على اليمن، وهو ما سيشكل عامل دعم كبيراً لـ(القاعدة) والجماعات الإرهابية بشكل عام».