على هذه الأرض من موروث ثري ومقتنيات ذات قيمة كبيرة ما يستحق بذل المزيد من الجهود لاكتشافها وحمايتها وحفظها حفظا آمنا وسليما وسن التشريعات الصارمة التي تضمن الحيلولة بينها وبين أيادي التخريب والعبث والسلب والنهب، فلا مستقبل للشعوب والبلدان العابثة وغير المكترثة بامتدادها الحضاري وعناصر تاريخها المشرق وهويتها الثقافية الأصيلة التي تمثل موجها مرجعيا يميز الخبيث من الطيب والغث من السمين والحق من الباطل.
تاريخ من التجريف
في عصور الأئمة المتأخرة وتحديدا في عهد يحيى حميد الدين وابنه أحمد، بدأت الرحلات الاستكشافية لليمن التي نظمها الرحالة الأوربيون والغربيون عموما، وقد حظي هؤلاء بالكثير من كنوز الآثار اليمنية التي لا تقدر بثمن تحصلون عليها كهدايا من الإمام وعماله ليعودوا بها إلى أوطانهم، وقد دأب الأئمة وعمالهم على ممارسات التجريف المتعمد لآثار اليمن وتراثه فقدموه على شكل هدايا لملوك بريطانيا وغيرها من الدول خلال ثورة 26 سبتمبر بهدف كسب الموقف البريطاني لصالحهم كمنقذ لهم من جذوة الثورة، وهو ما فعله أيضا أئمة الجنوب كشريف بيحان وغيره من حكام السلطنات ممن قدموا الآثار اليمنية قرابين لبريطانيا أملا في إبقائهم حكاما للسلطنات التي فرختها بريطانيا، وبدلا من أن يفتدوا الموروث الثقافي اليمني بأنفسهم وبما يملكون، جعلوه فداء لبقائهم في الحكم والسيطرة، في مفارقة كشفت العدو التاريخي لليمن ولموروثه وهويته وأمجاده.
وشملت هذه الهدايا تماثيل البرونز والذهب الخالص ونقوش مسندية نادرة وأدوات جراحة قديمة كانت تستخدم في تطبيب الناس وأواني ومصنوعات فاخرة ومنحوتات تجسد الحياة اليومية الاجتماعية والدينية، بالإضافة إلى كنوز من العصر الإسلامي تمثلت في نسخ نادرة ووحيدة للمصحف ونسخ أخرى مطرزة بالذهب وغيرها من المقتنيات ذات القيمة الكبيرة.
استمرار العبث .
تشكلت أذيال وبقايا الإمامة والكهنوت بعد قيام نظام الجمهورية في اليمن كعصابات لتجريف ونهب وتهريب الآثار والمتاجرة بها، وخلال عقود مضت تم تهريب الكثير من المقتنيات الأثرية ذات القيمة الكبيرة إلى خارج اليمن، لنتفاجأ بها معروضة في دور المزادات بدول أوروبية وأمريكية برغم أن بعض هذه القطع كانت محفوظة ومحرزة ومصنفة في المتاحف وبيوت التراث، ما يعني أن عصابات التهريب والمتاجرة نظمت عمليات نهب مخططة ومدروسة وأن لها أذرعا في كل مفاصل النظام، وقد تجلت مظاهر ذلك في حيازة بعض المحسوبين على النظام السابق على مقتنيات أثرية نوعية كأملاك شخصية في منازلهم أصبحت بعد ذلك في متناول عصابات التهريب والمتاجرة التي قامت حينها بتهريبها إلى الخارج وعرضها في المزادات العالمية.
تجريف غير مسبوق
شكل انقلاب المليشيا الحوثية أسوأ كارثة حلت بآثار اليمن وتراثها الثقافي، وهو ما أكده هلال صالح مدير وحدة الثقافة والموروث بمنظمة نشان ل26 سبتمبر بقوله (أعوام الحرب كانت ولا تزال خريفا بالنسبة للأثار اليمنية، نشطت خلالها عصابات التهريب والمتاجرة غير المشروعة بالآثار، وتضاعفت أعداد المخطوطات وتماثيل البرونز والذهب وحلي الزينة القديمة المعروضة في مزادات أوروبية وأمريكية بثمن بخس، وقد كانت هذه المخطوطات محرزة في متاحف صنعاء وذمار حتى منتصف العام 2015م) مضيفا: (هناك الكثير من محاولات التهريب للآثار أحبطت من قبل رجال الأمن في محافظات تعز وعدن ومأرب والجوف، وثبت ارتباط عصابات التهريب بقيادات المليشيا الانقلابية في صنعاء، كما ضبطت العديد من الآثار المهربة في منافذ سلطنة عمان وبدورها قامت بإبلاغ الحكومة اليمنية بهذه الوقائع)، وعن أسباب زيادة نشاط هذه العصابات خلال هذه المرحلة يقول هلال (بالإضافة إلى العقدة المتأصلة لدى السلاليين تجاه موروث اليمن العريق، تتعامل المليشيا مع هذه المقتنيات كمورد لكسب الكثير من الأموال)، وبحسب هزاع محمد الناشط في مجال التراث الثقافي فإن (متاحف صنعاء خالية تماما من محتوياتها الأثرية بما في ذلك النقوش والعملات المعدنية والتماثيل وغيرها فقد قامت المليشيا بمصادرتها واستبدالها بصور قياداتها ومقاتليها).
ووفقا للوقائع المرصودة فإن عصابات المليشيا تقوم بتهريب الآثار إلى إسرائيل ودول عربية أخرى لتتولى عصابات تهريب دولية تهريبها مجددا إلى دول أمريكية وأوروبية، وأكد ذلك الباحث الأمريكي ناجيل في ورشة مكافحة الاتجار غير المشروع بالموروث الثقافي التي عقدتها اليونسكو في جيبوتي نهاية شهر نوفمبر من العام 2016حين تحدث عن خط التهريب للآثار اليمنية الذي يمر على إسرائيل ودول عربية أخرى وصولا إلى أوروبا وأمريكا وشمل حديثه فترة الاستكشافات الأولى لتراث اليمن وحتى اليوم.
عام كارثي
يفيد الباحث اليمني في علوم الآثار عبدالله محسن ظافر بأن آثار اليمن المهربة والمباعة في المزادات خلال العام 2019م صادمة للغاية فقد احتلت المرتبة الأولى تلتها سوريا ثم العراق، منها بيع شاهد قبر من اليمن القديم عمره 21 قرنا بمبلغ 116500دولار أمريكي، ومذبح من الألفية الأولى قبل الميلاد تم بيعه في نوفمبر بمبلغ 120000دولار أمريكي كآخر واقعتين لبيع الآثار سبقتها مئات الوقائع، كما شهد هذا العام عمليات تهريب تفوق الأعوام السابقة اشترك فيها نافذون ومنظمات محلية ودولية وقيادات المليشيا الحوثية وأذنابهم المنتشرين في كافة المحافظات، واستخدم في تهريبها بحسب الباحث محسن سيارات وقاطرات وسفن وقوارب وطائرات مدنية وأممية.
حماية منقوصة
أشار مطلع التقرير إلى أن بعض صور العبث بآثار اليمن تمثلت في قيام الأئمة بإهدائها إلى زائري اليمن على الرغم من قيمتها الحضارية الكبيرة، ومن المعروف أن اتفاقيات حماية الآثار الحالية التي تتبناها اليونسكو لا تؤكد على حماية هذا النوع من الآثار ولا تشمل بنودها إمكانية التعاون في استردادها إلى بلدها الأصلي، فقد اقتصرت على حماية وإمكانية استرداد القطع الأثرية المنتقلة من خلال التهريب والتجارة غير المشروعة، في حين أن الكثير من آثار اليمن انتقلت إلى بلدان أخرى عن طريق الهدايا، وهنا يأتي دور وزارة الثقافة اليمنية لمعالجة هذا القصور وردم الفجوة من خلال الضغط على المنظمات الدولية المعنية لتبني صيغة جديدة شاملة باستطاعتها حماية هذا القطاع الحيوي .
قرابين وهدايا
من أبرز وقائع إهداء آثار اليمن لزائريها إهداء الإمام يحيى حميد الدين لأحمد زكي باشا عند زيارته لصنعاء مجموعة نقوش قصر غمدان وذلك في سبتمبر 1936م، وظلت هذه الواقعة غائبة عن المراقبين ليقوم بكشفها الفنان التشكيلي محمد سبأ الذي التقط صورة للنقش وهو مثبت على جدار واجهة جدار مسجد زكي باشا في الجيزة بجمهورية مصر العربية، وبحسب دراسة للباحثة رباب عادل فإن أحمد زكي باشا عاد من رحلته إلى اليمن بكثير من التحف النادرة والدرر الفريدة منها الحجر الحميري من قصر غمدان وألف قطعة من العقيق اليماني أعلن زكي حينها أنها أجمل حلية يزدان بها مسجده بفسطاس الجيزة.
ومن أكثر الوقائع إيلاما ما نشره الباحث الكبير عبد الله محسن في صحفته بالفيس بوك عن تحف نادرة من روائع فن تصميم وصياغة المجوهرات في اليمن القديم يتجاوز عمرها 2100 عام وجدت في بيحان بشبوة، قام أمير بيحان الشريف صالح بن أحمد الشبيلي ببيعها بثمن بخس لنيكولاس رايت وهي الآن في المتحف البريطاني مع أكبر مجموعة من المجوهرات الأثرية اليمنية ذهبت على شكل هدايا وتهريب، أما التحف غير الذهبية فقد أهداها الهبيلي للسير تشارلز جونستون عربون صداقة بحسب كتابته عليها بخط يده لدعمه للعودة أميرا على بيحان، وكما يقول محسن ذهبت التحف إلى متحف لندن في العام 1997م، وتوفي الهبيلي في العام 2010م دون عودة إمارته.
جهود ولكن
بذل وزير الثقافة مروان دماج وطاقم عمله المعني بالآثار جهودا غير محدودة في سبيل حماية الآثار واستعادتها، أبرز هذه الجهود التوقيع على اتفاقية التعاون في مجال مكافحة الاتجار غير المشروع بالآثار وتنسيق عودتها إلى موطنها الأصلي، وتمكنت اليمن بفضل جهودهم إلى الانضمام إليها ودخول الاتفاقية حيز التنفيذ، بالإضافة إلى المزيد من الجهود في استرداد المخطوطات والقطع الأثرية من الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، والحصول على تمويلات لإعادة ترميم وتشغيل متاحف تعز وحضرموت وعدن، من ناحيته بذل السفير لدى اليونسكو محمد جميح المزيد من الجهود الداعمة لهذا التوجه، وظلت مسألة الحفاظ على الآثار في أولوية أجنداته، وظلت هذه المشكلة ولا تزال تتصدر بداية خطاباته التي يوجهها أمام القيادات الثقافية في العالم خلال اجتماعات اليونسكو، لكن تظل كل جهودهم غير كافية رغم قيمتها الكبيرة ما لم يتم معالجة هذه الاختلالات:
• الضغط للحصول على صيغة دولية تلبي احتياجات الحماية لآثار اليمن خصوصا ما ذهب منها عن طريق هدايا كون بنود الاتفاقية الدولية بهذا الخصوص غير منصفة، وتسهم في تمييع القضية.
• لاتزال ما تسمى هيئة الآثار في صنعاء تمثل اليمن في المحافل والاجتماعات الدولية وفي ظل استمرار هذا الوضع فآثار اليمن في خطر يتهددها، وما يستلزم الحسم في هذه الإشكالية.
• أنشطة وزارة الثقافة وهيئات الآثار مفعلة فقط في تعز وعدن وحضرموت وغائبة تماما في الجوف وشبوة ومأرب أكثر المحافظات التي تمتلك مخزونا هائلا من الموروث الثقافي، وهو أمر يستدعي المراجعة والتصحيح.