تيارات ثقافية أجنبية تعمدت بريطانيا غرسها في تربة المجتمع اليمني لتمييع ثقافته العربية العريقة.
تلك الاستراتيجية الإنجليزية حركت الهمة، وأيقظت الضمير لدى رواد الفكر والمثقفين والوطنيين، وقرر الجميع مجابهة ومواجهة ألاعيب المحتل، على إثرها تم إنشاء النوادي الثقافية التي أخذت على عاتقها محاربة التغريب وترسيخ الهوية وتنوير المجتمع لتنتهي أخيراً باندلاع كفاح مسلح أثمرت نتائجه برحيل المحتل وتحقيق استقلال ناجز.
التغيير الديمغرافي
بعد مرور 16عاماً من الاحتلال الإنجليزي لعدن زار مدينة عدن الرحال وعالم الاجتماع الفرنسي آرثر دي غوبينو تقريباً سنة 1855م، كان مندهشا من الوضع وقال: «في عدن شاهدنا مدينة هندية فوق أرض عربية وسط الصخور»!
رحال فرنسي آخر يدعى بول موراند في كتابه (طريق الهند) زار مدينة عدن في سنة 1861م واصفاً سوق عدن قائلا: «يقدّم للمسافرين القادمين من أوروبا عيّنات فاتحة للشهية من عجائب الهند، ويسمح للعائدين بشراء ما لم يتمكنوا من شرائه هناك، فقاعات البيع الكبيرة التي يمتلكها الفارسيون في التواهي تضاهي تماماً الدكاكين الضخمة في بومباي».
مؤرخون ذكروا أنّ الثقافة الهندية سادت الحياة الثقافية في مستعمرة عدن بسبب تشجيع السلطات البريطانية لها بغرض تمييع وتغييب الثقافة اليمنية.
من خلال النشاطات الفنية التي كان الاحتلال يتبناها ويقوم بها تجد الفرق الهندية التي كانت تزور عدن، وتجلب الأفلام الهندية والأجنبية، قد لعبت دوراً كبيراً في تمييع وإذابة الحس القومي بين أبناء المنطقة.
محاربة التيارات الدخيلة
عوامل عدة أسهمت في نشوء الأندية الثقافية ولعل من أسباب ظهورها الرئيسة هي محاولة الوقوف ضد التيارات الثقافية الأجنبية المختلفة التي فتحت لها حكومة عدن البريطانية أبواب المحتلة عدن على مصراعيها.
السياسة البريطانية كانت تتعمد غرس التيارات الثقافية الأجنبية في تربة المجتمع اليمني، ومن أهم التيارات الثقافية الأجنبية الثقافة الهندية التي وضعت بصماتها الواضحة في الثقافة، والموسيقى، واللبس، والعادات والتقاليد.
يؤكد مؤرخون أن الغرض من صبغها بالثقافة الأجنبية هو سلخ شخصيتها اليمنية الأصيلة المستمدة من حضاراتها العربية الإسلامية العريقة، وجعلها تدور في فلك الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس من ناحية، والقضاء بسهولة على مطالب القوى الوطنية في عدن بعودتها إلى اليمن الأم من ناحية أخرى.
بحث عن الذات
عندما طرحت بريطانيا مشروعها القاضي بضم مستعمرة عدن وزارة المستعمرات البريطانية بدلاً من حكومة الهندي في بومباي في سنة 1932م، رفض أصحاب النفوذ الهنود في المستعمرة، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وكانت حججهم أنّ عدن هندية لكونها كانت في حوزة الهند قرابة قرن كامل.
عمل المحتل على إذابة وصهر الهوية العربية بالثقافة الأجنبية ولم يدر بخلد الساسة البريطانيين بأنّ الثقافة العربية في عدن ضاربة جذورها في أعماق الحضارة اليمنية الإسلامية، وأنه من المستحيل طمسها أو تمييعها.
رواد الفكر التنويري الوطني في المستعمرة رفضوا رفضاً قاطعاً سياسة حكومة عدن البريطانية إزاء إحلال الثقافة الأجنبية بدلاً من الثقافة اليمنية العربية، وكان سببا رئيسا في ظهور الأندية الثقافية والأدبية والاجتماعية.
وعي قومي
مؤثرات أخرى أسهمت مساهمة فعالة في تأسيس النوادي الثقافية والأدبية، والجمعيات الخيرية إلى جانب المؤثرات المحلية.
عدن إبان احتلالها زارها العديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية العربية ذات الوزن السياسي والفكري على الساحة العربية أمثال المفكر الكبير التونسي عزيز الثعالبي الذي زار عدن في عشرينيات القرن العشرين. واقترح على المثقفين في المستعمرة تأسيس نادي الأدب العربي.
ثورة فلسطين
إلى ذلك لعبت الثورة الفلسطينية عام 1936م، إلى جانب زيارة عدد من الشخصيات الفلسطينية دوراً مهماً في انتباه اليمنيين في عدن إلى قضايا العروبة والحماس لمؤازرتها مما أدى إلى غرس نواة للشعور السياسي بالانتماء للوطن والقومية العربية.
الحرب العالمية الثانية هي الأخرى أحدثت في الوطن العربي في مصر، والعراق، والشام غليانا في الحياة السياسية، وكان من الطبيعي أنّ يمتد تأثيره على المستعمرة التي كانت مرفأً دوليا مهما تدخل إليه كافة التيارات السياسية مثلما تدخل إليها مختلف التيارات الثقافية، فلا نغلو إذا قلنا: إن الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية من أسباب نشأتها أيضاً تلك التأثيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية بعد أنّ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.
إحداث نهضة ويقظة
في سنة 1925م أسس أول نادٍ أدبي وهو نادي الأدب العربي، مؤسسه الأمير أحمد فضل المعروف بالقمندان، والذي يعتبر من أوائل رواد الحياة الأدبية في لحج واليمن، وكان أعضائه من مدينة عدن، وكان مدير النادي محمد علي لقمان المحامي صاحب ومؤسس صحيفة «فتاة الجزيرة» سنة 1940م الصادرة في المحتلة عدن.
ومن أهدافه إحداث يقظة ونهضة على الصعيد الثقافي والأدبي في كل من لحج وعدن، واللذين كانا حياتهما الثقافية أفضل بكثير من الإمارات والمشايخ المعروفة بالمحميات.
شخصيات اجتماعية مسنة عاصرت التاريخ الوطني ذكرت أن جميع منتسبي الحركة الوطنية التي ناضلت ضد المستعمر البريطاني والإمامة ولدت من نادي الأدب العربي، ومن هذا النادي انبثقت الجبهة الوطنية وحزب الشعب العربي الاشتراكي سنة 1952 وحزب البعث سنة 1954م وحركة النقابات الست ورابطة أبناء الجنوب سنة 1956 وحركة القوميين العرب 1957م، وكذا حزب الشبيبة بقيادة عبدالله عبدالرزاق باذيب ومنظمة علي عبدالله السلفي.
نادي الإصلاح العربي
وفي سنة 1929م أسس في مدينة التواهي نادي الإصلاح العربي مؤسسه عبده غانم، وفي حي كريتر عدن أسس أيضاً نادي باسم الإصلاح العربي سنة 1930م، وكان من أبرز مؤسسيه محمد علي لقمان، وفي نفس السنة أسس في الشيخ عثمان نادي باسم الإصلاح العربي.
كبار السن من الأدباء ذكروا أنّ مدينة الشيخ عثمان كانت في فترة الثلاثينيات والأربعينيات تحتل مكانة مرموقة في ميدان الثقافة والأدب والقضايا الاجتماعية.
الإصلاح الإسلامي العربي
ومن الأندية المهمة التي أنشئت في الشيخ عثمان نادي الإصلاح الإسلامي العربي. تقول الأستاذة شفيقة عبدالله العراسي عن نشاط النادي وأهم أعماله: «إنه شجع أعضاءه للمشاركة في جميع أحداث العالم العربي، والمساهمة في جمع المال لضحايا الحرب، والاحتجاج على احتلال اليهود لفلسطين». ويلفت نظرنا أنّ نادي الإصلاح الإسلامي العربي كان يمتلك رؤية عربية واسعة وعميقة، أو بعبارة أخرى كانت لديه آفاق واسعة في مسألة القضية الفلسطينية، والذي اعتبرها جزءا لا يتجزأ من القضايا العربية ويجب الاهتمام بها.
النادي كانت له مساهمته الكبيرة إزاء القضية الفلسطينية، فقد جمع المساعدات المالية للفلسطينيين من جراء الحروب التي كانت تشنها المنظمات الصهيونية المسلحة على المواطنين الفلسطينيين الأبرياء.
مخيم أبي الطيب
وفي سنة 1938م تم تأسيس مخيم أبي الطيب المتنبي في كريتر بعدن، وكان عبارة عن منتدى أدبي يعنى بالشعر والأدب، وتميز أعضاؤه بالنشاط والعمل لرفع المستوى الثقافي في عدن.
ورغم أن أهم أغراض المخيم الذي أنشئ من أجله هو عنايته بالشعر والأدب، إلاّ أنه وضع نصب عينيه عدداً من الأنشطة المهمة، مثل اهتمامه بالتعليم والقضاء على محو الأمية بين سكان عدن.
المخيم قام بإرسال البعثات العلمية للشباب إلى الخارج، وسعى لدى إدارة المعارف في إقامة صفوف ليلية لتحصيل التعليم العالي والدعوة للقضاء على الأمية ومحوها في صفوف الكبار.
الطبقات الفقيرة من المجتمع وجه اهتمامه نحوها، إذ فتح لها أبوابا واسعة في ميدان التعليم، فأنشأ جمعية إعانة أبناء الفقراء، وكان الهدف منها تقديم الإعانات المالية لأبناء الفقراء في المدارس الابتدائية والثانوية والطلبة المبتعثين في البلاد العربية، وذلك حتى لا يقتصر التعليم على الأقلية من أبناء الأغنياء، ويظل الجهل في صفوف الأغلبية من الفقراء.
شفيقة العراسي نقلت عن الدكتور أحمد علي الهمداني الدور المهم الذي قام به مخيم أبي الطيب في الحركة الثقافية يقول: «يعود لهذا المخيم الفضل في تطوير الحياة الأدبية، وخلق حياة فكرية حديثة جعلت عدن تحظى بمكانة أدبية متميزة بين الأقطار العربية».
توقف نشاط الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية أو الخيرية في عدن كان طبيعيا جراء فرض السلطات البريطانية الحظر عليها، ومع مرور الوقت عادت بعض الأندية الثقافية والأدبية في مزاولة نشاطها مرة أخرى، ومنها مخيم أبي الطيب الذي عاد إلى مزاولة نشاطه في فبراير سنة 1941م.
عدن والحرب العالمية الثانية
إبان الحرب العالمية الثانية سادت في المستعمرة أجواء من الإرهاب، والقمع من قِبل السلطات البريطانية التي كانت تراقب عن كثب تحركات الكتاب والأدباء، أو بالأحرى كانت ترصد القوى الوطنية في المستعمرة من خلال زجهم بالسجون، أو نفيهم خارج مدينتهم، مما أوقف نشاط النوادي الثقافية والأدبية في المستعمرة ومنها مخيم أبي الطيب.
يؤكد مؤرخون أن الحرب العالمية الثانية أثرت على نشاط الأندية، والجمعيات، والمنتديات الأدبية في مستعمرة عدن، فقد عمل قانون الطوارئ على حظر أي نشاطات سياسية أو اجتماعية فيها، وأصبح المثقفون الذين كانت لهم مواقف وطنية عرضة للاعتقال، وزُج ببعضهم في سجن عدن، وتم نفي بعضهم إلى جزيرة كمران، كما تم وضع الآخرين تحت الإقامة الجبرية في منطقة غير مسقط الرأس، بحيث كان المقيم قسراً «المعتقل» يسجل اسمه في مركز الشرطة صباحاً ومساءً ليثبت وجوده وعدم مغادرته المنطقة المقررة لإقامته.
المخيم وحركة الأحرار اليمنيين
لعب مخيم أبي الطيب دوراً غاية في الأهمية على مسرح اليمن السياسي، إذ وقف وقفة صريحة وقوية مع المعارضة اليمنية ضد حكم الإمام يحيى المستبد.
أوضحوا- من خلال الندوات التي كان يعقدها حركة الأحرار اليمنيين في المخيم- مساوئ الحكم الإمامي، وكيف عزل اليمن سياسياً وثقافيا عن باقي البلدان العربية والإسلامية.
فتح مخيم أبي الطيب للأحرار اليمنيين مجالاً واسعاً بتقديم مساهماتهم الأدبية بالمحاضرات وحلقات النقاش، وأدى ذلك إلى إثراء الحركة الأدبية والثقافية في اليمن من ناحية، وإلى بروز هوية رجال الأحرار السياسية من ناحية أخرى من خلال شرح قضيتهم ومبادئهم، وأسهم هذا النشاط في الالتفاف حول الحركة والعمل على مناصرتها ودعمها مادياً.
مطبوعات وترجمة
استغل أعضاء مخيم أبي الطيب فرصة موافقة سلطات عدن البريطانية فتح أبواب المخيم من جديد، فقام أعضاء المخيم بإلقاء المحاضرات على المواطنين، وقوات محمية عدن أيضاً، وتناولت المحاضرات برامج تثقيفية في مختلف مجالات الحياة التربوية والاجتماعية والعلمية والأدبية.
في عام 1942م تم طبع عدد من المقالات تحت عنوان «أقلام مخيم أبو الطيب»، من تلك المقالات أولاد الكشافة، والصياد العدني، وتعدد الزوجات، وشاب في عدن، وأشهر قصائد أبي الطيب المتنبي.
المخيم لم يكتف بذلك فقد أنشأ «لجنة الترجمة والنشر» في عدن، وأسهم في ذلك في رفع مستوى الوعي الثقافي بالاطلاع على روائع الأدب العالمي والقضايا الدولية السياسية منها الاجتماعية.
رواد التنوير الفكري
عوامل رئيسة كانت سبباً في ظهور النوادي الثقافية والأدبية والاجتماعية على سطح الحياة الثقافية في مستعمرة عدن تتمثل في وقوف رواد فكر التنوير بحزم وقوة وإرادة صلبة ضد التغريب أو الميوعة الثقافية التي كانت تتعمدها السلطات البريطانية في المستعمرة.
نشر الثقافة بين سكان مستعمرة عدن، والعمل على الحفاظ على الهوية اليمنية الأصيلة، وصد الهجمات القوية والشرسة والمنظمة من رياح الثقافات الأجنبية التي هبت على المستعمرة، كان الهدف من وراء إنشاء الأندية.
الأندية الثقافية والأدبية والجمعيات الاجتماعية كانت اللبنة الأولى في تأسيس الأحزاب السياسية في المستعمرة، فقد كان ظاهرها الحياة الثقافية لكن باطنها هي الحياة السياسية.