سبتمبر نت
ظل اليمن تاريخيا وطنا كبيرا موحدا في ظل حضارات متعددة تعاقبت عليه أنظمة حكم مختلفة منها النظام الفدرالي الذي عرفته الحضارة اليمنية مبكرا باسم المخاليف وأسماء أخرى في ظل وحدة الأرض والإنسان، وكلما مرت البلاد بمراحل من الضعف والخور وانهيار للممالك وظهور نزعات التقسيم يبادر أقيالها ورجالها بل وسكانها الأصليون إلى الحفاظ على وحدة الأرض والإنسان ومواجهة كافة النزعات الطارئة والمؤقتة المعادية لوحدة اليمن وسلامة أراضيه، وستظل الوحدة والوفاق الوطني والتماسك الاجتماعي هي قدر اليمن المحتوم الذي لا ينفك عنه مهما طرأت على المشهد دعوات التمزيق والفرقة المسندة من قبل أطراف إقليمية وعالمية خارجية لخدمة أطماعها، وكلما أوقدوا نارا لتأجيج النزاعات البينية والنزاعات المناطقية والانفصالية سيطفئها الله والإرادة الجمعية لشعب اليمن العظيم وهي إرادة صلبة قهرت كل الظروف والمؤامرات ومحاولات العبث قديما وستظل كذلك.
والمتأمل للتاريخ اليمني قديما وحديثا يجد أن المتوردين على اليمن من خارجها هم السبب الأول في إذكاء نزعات الانفصال والمناطقية، وفي خلق مظالم متعمدة بين أبناء اليمن شمالا وجنوبا شرقا وغربا بهدف الوصول إلى تقسيم اليمن وتفتيتها بحجة زيادة المظالم والتسلط واستئثار فئة على أخرى بفرص الثروة والحكم لكن أيا من هذه المؤامرات لم يكتب لها النجاح ولن يكتب لها حاليا ومستقبلا وإن تسببت في التأثير على المشهد ردحا من الزمن، فاليمنيون بطبيعتهم تواقون لوحدة الأرض والإنسان في ظل فرص متساوية للجميع وأنظمة حكم عادلة وشوروية وديمقراطية تضمن المشاركة والإنصاف فهم من أولى الشعوب المبتكرة لهذه الأنظمة والآليات، وتجلى هذا المطلب واضحا في التضحيات المبذولة خلال ثورات سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر التي حوت أدبياتها مطلب الوحدة كقيمة نضالية موحدة لجميع اليمنيين شمالا وجنوبا.
الوحدة أبرز أهداف النضال
بنظرة موضوعية متفحصة لأحداث النضال الثوري اليمني، نجد أن ثورات سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر تجسدت فيها واحدية الهدف والنضال والقضية لكافة الشعب دون استثناء، من أجل ذلك كانت أهداف ثورة 26 سبتمبر الستة منارا واضحا اهتدت به كافة الثورات التالية وكافة الحركات الوطنية النضالية التي واجهت الظلم والاستبداد شمالا وجنوبا.
ومن القضايا ذات الأولوية المطلقة في أدبيات النضال اليمني، والتي ظلت هما مشتركا للجميع، تحقيق الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب، وإقامة دولة واحدة قوية ينعم أبناؤها بخيراتها في ظل مواطنة متساوية تستند إلى قواعد الحكم الرشيد، فحينما تحقق الانتصار على حكم الإمامة السلالي وأعلنت الجمهورية، توحدت جهود اليمنيين جنوبا وشمالا نحو مقارعة الاستعمار ودحر المحتل البريطاني من عدن، وتوجت هذه الجهود النضالية بإعلان الاستقلال في ال30 من نوفمبر، وبعد سنين من نجاح هاتين الثورتين ظل اليمنيون فيها يغالبون مخلفات الإمامة والاستعمار، حتى تحققت الوحدة اليمنية في حدث تاريخي كبير بتاريخ ال22 من مايو 1990م، ويعد هذا الحدث العظيم ثورة ثالثة خلقت من رحم الثورتين السابقتين وحققت فيها اليمن انتصارا ساحقا على فلول الإمامة والاستعمار الذين ظلوا ينخرون فيها، ويحاولون إعادتها إلى سابق عهدها المثخن بالاستبداد والظلام والكهنوت، لكن إرادة اليمنيين كانت الأقوى والأقدر وستظل كذلك.
مطلب الجميع
ما قبل الثورات اليمنية المجيدة، خضعت المناطق الشمالية لنظام حكم إمامي متسلط يرى أحقية السلالة الإمامية في تولي أمور الحكم والسيطرة على مقدرات وخيرات الناس، وخضعت المناطق الجنوبية من لحج وحتى المهرة لسلطنات ومشيخات، تحمل ذات الخصائص الإمامية في نظام سيطرتها، وقد عمل المحتل البريطاني على تعزيز تواجدها وسيطرتها، وفي ظل ذلك المشهد المعقد كان من المستحيل أن يناضل اليمنيون من أجل إقامة الوحدة، لتعدد السلطنات والمشيخات والممالك الصغيرة، فبدأ النضال شمالا ومن ثم جنوبا من أجل إقامة النظام الجمهوري، وهو ما سيمهد لتوحيد اليمن شمالا وجنوبا أرضا وإنسانا، وتشير بعض الكتابات –بحسب الروحاني- إلى أن فكرة الجمهورية تم تداولها على ألسنة بعض الأحرار اليمنيين في عام 1956م في إطار لقاءاتهم التنظيمية بعدن تحت مظلة الاتحاد اليمني (1951-1952)، لكنها لم تظهر كمفهوم يدعو إلى استبدال النظام الملكي الإمامي إلا في وثائق تنظيم الضباط الأحرار في ديسمبر 1961م، وأعلنت الجمهورية بعد عام تقريبا من تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وذلك في 26 سبتمبر 1962م بعد نجاح الثورة، وسميت بالجمهورية العربية اليمنية، وكان المشير عبدالله السلال أول رئيس لها واستمرت بذات التسمية حتى قيام الوحدة اليمنية عام 1990م، أما الجمهورية الثانية التي جاءت بعد نضال مرير خاضه الشعب ضد المستعمر البريطاني في 14 أكتوبر 1963م فهي جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (30 نوفمبر 1967) وتحولت بعدها إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بعد أن تبنت المنهج الاشتراكي، وأول رئيس لها قحطان محمد الشعبي، واستمرت هي الأخرى بنفس التسمية حتى دخلت في وحدة اندماجية مع الجمهورية اليمنية في الكيان الوحدوي الجديد (الجمهورية اليمنية ) في 22مايو 1990، وكانت هي الثمرة النوعية لنضالات اليمنيين شمالا وجنوبا.
وثائق وحدوية
كانت الوحدة اليمنية أبرز مضامين أدبيات الجبهة القومية وجبهة التحرير، وانعكست هذه المضامين في توجهات ومؤتمرات وبرامج القومية والتحرير، ونص الميثاق الوطني للجبهة القومية على أن اليمن شمالا وجنوبا ظلت وحدة طبيعية متكاملة تجمع شعبها روابط وعوامل كثيرة منها وحدة الأرض ووحدة المعاناة اليومية للحياة ووحدة المصلحة والمصير، وفي تقرير نشرته صحيفة الثورة لمحمد دماج في العام 2013 م بمناسبة العيد الذهبي لثورة أكتوبر أورد فيه الكثير من الأدبيات ذات العلاقة بهذا الموضوع، موضحا بأن الميثاق الوطني للجبهة القومية نص على أن المنطقة –اليمن شمالا وجنوبا-ظلت وحدة طبيعية متكاملة تجمع شعبها روابط وعوامل كثيرة، منها وحدة الأرض، ووحدة المعاناة اليومية للحياة ووحدة المصلحة والمصير ،وقد تجسدت هذه الوحدة على مستواها السياسي في عصر الإسلام، في دول متعددة تعاقبت على المنطقة كدولة الزياديين والأيوبيين والصليحيين، تضم شملها وتعبر عن وحدتها.
ولظروف تاريخية واجتماعية معينة تهاوت هذه الدول، وحطم بعضها بعضا، وبدأ قادة الجيوش والولاة في مناطق الجنوب يشرفون على إدارتها والاستقرار فيها، ثم أخذوا يقتطعون الأرض لملكيتهم الخاصة، ويعلنون عن انفصالهم التدريجي عن الحكومة المركزية في صنعاء أو تعز أو زبيد أو عدن.
هذه الأدبيات تؤكد بوضوح تام على أن الجبهة القومية – وهو ذات المسلك لجبهة التحرير- بأن من أدبيات النضال الرئيسية لثوار أكتوبر السعي لتحقيق وحدة اليمن أرضا وإنسانا باعتبار انقسام اليمن إلى شمال وجنوب أمر طاري تسببت فيه ضعف الدول المتعاقبة على حكم اليمن بالإضافة إلى أطماع الولاة وقادة الجيش في جنوب اليمن.
وفي البيان السياسي الصادر عن القيادة العامة المنبثقة عن المؤتمر الرابع للجبهة القومية المنعقد في مدينة زنجبار خلال الفترة 2-8مارس 1968 جاء فيه ( بالرغم من أننا حققنا طرد المستعمر والقضاء على النظام السلاطيني شبه الإقطاعي في جمهوريتنا، إلا أنه يجب أن لا يغرب عن بالنا أن تحررنا الوطني بشكله السليم إلا بانتصار ثورتنا بالشمال وتحقيق وحدة الإقليم اليمني)، وهذا دليل واضح على أن وحدة الإقليم اليمني هدف سام وقيمة وطنية مشتركة لدى الثوار الأحرار شمالا وجنوبا، وفي هذه العبارة المأخوذة من البيان، إيحاء بأنهم كانوا يأملون بتحقيق الوحدة اليمنية، فور الاستقلال ودحر المحتل البريطاني، إلا أن عددا من المشكلات والأخطار التي طرأت على المشهد في الشمال هي من أعاقت ذلك إلى أن انتصرت إرادة اليمنيين في العام 1990م، ومن الواضح أن تغيرات المشهد شمالا حينها كان سببه فلول الإمامة الذين لا يروق لهم وحدة اليمن وسلامة أراضيه، فبذلوا جهودا جبارة لإعاقة الوحدة اليمنية، كما عملوا على تفريغ مضمونها بعد تحققها.
صناع الوحدة
على الرغم من المعيقات التي أخرت إعلان الوحدة اليمنية فور الاستكمال من تحرير الحكم الإمامي شمالا والاستقلال من المحتل جنوبا، إلا أن تباشير الوحدة وإرهاصاتها بدأت في الظهور من مدينة عدن ومن بين أوساط المثقفين والمفكرين والكتاب والأدباء والشعراء وصناع الرأي والتنوير، ففي العام 1970 وقبل عقدين من اتفاقية الوحدة اليمنية، أنشأت النخبة المثقفة في عدن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فكانت هذه المؤسسة ظاهرة وحدوية بامتياز، تجاوزت حدود التشطير الذي كان مفروضا حينها، لتضم كافة المثقفين والمبدعين اليمنيين في إطار واحد، وألهمت هذه التجربة الفريدة جيل الأدباء والكتاب والمفكرين في سبعينات القرن الماضي تناول موضوع الوحدة اليمنية في تجاربهم الإبداعية كقيمة وطنية سامية، وقضية وطنية جوهرية للشعب اليمني شمالا وجنوبا، حتى أصبحت حلم كل الأطياف اليمنية، وقضية ذات أولوية مطلقة لدى السياسيين في الشطرين.
ومن خلال هذه المؤسسة الأدبية الرائدة، تم عقد اللقاءات المشتركة بين أدباء الشمال وأدباء الجنوب في كل من صنعاء وعدن، مهدت هذه اللقاءات البينية لبناء أرضية مشتركة انطلق منها أدباء الشطرين لمناصرة قضايا الوحدة، وصناعة الرأي العام بضرورة قيامها كونها الحل الأنسب والجذري للتخلص من مشكلات الفقر والظلم والفساد والانحرافات السياسية، ولم يكن كل هذا العمل والإنجاز بطبيعة الحال سهلا ومسيرا ،فقد واجه الاتحاد الكثير من الصعوبات والعقبات والمنعطفات القاسية ومحاولات التمزيق المستمرة، لكن عمر الجاوي رئيس الاتحاد ورفاقه من الأدباء والمفكرين والكتاب، وقفوا بإصرار وثبات وعزيمة لإيصال رسالتهم الوطنية متجاوزين كل المعوقات والتحديات التي اعترضت طريقهم حينها، لإيمانهم بالقضية وبالدور المناط بهم في سبيل مناصرتها وتحقيقها واقعا.
وحدة الأرض والإنسان
في مراحل النضال الثوري لثوار سبتمبر وأكتوبر تجسدت وحدة الهوية والأرض والإنسان والنضال واقعا ملموسا على الرغم من وجود الحدود الشطرية حينها، في صورة أبهى للإنسان اليمني سليل الأماجد وهو يتجاوز القيود المفروضة وينتصر لقضيته العادلة وآماله المنشودة المتمثلة بوحدة وسلامة أراضيه.
تعرضت اليمن تاريخيا لانقسامات عديدة، لكنها سرعان ما تعود وتتوحد، وحين يجد الإنساني بلاده قد انقسمت أرضا بعامل الغزو الخارجي، يظل متوحدا إنسانا، ويشرع في خوض غمار النضال حتى تتوحد بلاده أرضا وإنسانا، وقد سجل لنا التاريخ الكثير من الوقائع الشاهدة على ذلك، كما سجل أيضا بأن مسألة تقسيم اليمن أو تجزئته فكرة لم ولن تخطر في بال اليمنيين الأصليين، بل هي فكرة دخيلة يفرضها الاستعمار الخارجي، ولعبة قذرة يعبث بها السلاليون المتوردون القادمون إلى اليمن من أصفهان وإيران، لذلك كانت التئام اليمن مجددا في العام 1990م حدثا صادما لهم، الأمر الذي جعل دول الاستعمار وفلول الإمامة يعيدون ترتيب صفوفهم مجددا بتنسيق مشترك لإجهاض هذا المشروع الوطني الجبار من خلال المزيد من المخططات والمكايد التي استطاعت أن تفرغ الوحدة من مضمونها وجوهرها الحقيقي، لتتحول وفي سنواتها الأولى إلى جحيم مستعر على أبناء اليمن عموما الشمال والجنوب بهدف غرس قناعة لدى اليمنيين بأن وحدة الأراضي اليمنية لا يصب في مصلحتهم، ولا يعلمون بأن اليمنيين مدركون لكل هذه الألاعيب، ويمتلكون روحا نضالية كبيرة لا يمكن إنهاكها في سبيل الدفاع عن وحدته وسلامة أراضيه، وهذا ما جسده ويجسده أبناء اليمن الحقيقيين شمالا وجنوبا، وما جسده الثوار الأحرار في جميع مراحل نضالهم وتضحياتهم.
إرادة تتجدد
تعرضت الوحدة اليمنية المجيدة التي حققها اليمنيون إلى تشويه متعمد وطعنات غادرة من قبل أعدائها التاريخيين، حيث بدأت ممارسات الإقصاء والتهميش وخلق المظالم والاستئثار بالموارد والمال والسلطة حتى كاد مسارها أن ينحرف، فجاء الحراك الثوري السلمي الجنوبي وتبعته الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي انطلقت شرارتها شمالا لتصحيح مسار الاختلالات الخطرة على استمرار توحد اليمنيين، في نضال سلمي مشترك جمع أبناء الشمال والجنوب في هدف موحد مقتضاه القضاء على أسباب ومسببات وتأثيرات الأعمال العبثية التي تنال من وحدة اليمن وسلامة أراضيه وتماسك أبنائه، وأفضى هذا النضال القديم المتجدد إلى الخروج بوثيقة الحوار الوطني الشامل التي عكست إرادة ورغبة اليمنيين في استمرار توحدهم وإزالة كافة العوائق والمشكلات المعيقة لحدوث الوحدة الحقيقية التي ينبغي أن ينعم بها هذا الوطن والتي توفر قدرا كبيرا من العدالة السياسية والاجتماعية والفرص المتكافئة في الحصول على الموارد وإدارتها وتعزيز نظم الحكم الرشيد الضامنة لتحييد القوى الظلامية والكهنوتية والمشاريع الصغيرة الساعية لخلق الفرقة والشقاق بهدف السيطرة على موارد البلاد القومية والمحلية حتى ولو كان ثمن ذلك دخول البلاد في منزلق التقسيم والفوضى والممالك والسلطنات.
ولأجل ذلك حرصت الأدبيات المقدمة لمؤتمر الحوار من قبل كافة المكونات الوطنية والتي انعكست بوثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل في تقديم الرؤى والتصورات الضامنة للخروج من المشكلات المتعلقة بالقضية الجنوبية، مثلت في مجملها رؤية واحدة توافقية أوجدت حلولا عادلة وشاملة وتعويضية للأبعاد السياسية والقانونية والحقوقية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للقضية الجنوبية، وحملت جملة من التدابير والآليات التي ستعمل حين تفعيلها إلى حلحلة القضايا والمظالم وإعادة ترميم ما تهدم، وحماية الوحدة اليمنية الحقيقية من أي عبث آخر قد يطالها من المتآمرين والحاقدين والأطراف الطامعة، وهو ما يعكس الرغبة الصادقة لليمنيين كافتهم في توحد الأرض والإنسان، وأن نضالهم لن يتوقف في سبيل ذلك.