الاحتجاجات في العراق تخطّت بوضوح عتبة المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وتحوّلت إلى ثورة هادفة إلى إسقاط النظام وفكّ الارتباط بإيران. الأمر الذي وضع السلطات العراقية أمام مأزق غير مسبوق، خصوصا وقد استنفدت مختلف الحلول وفشلت في وقف المدّ الاحتجاجي العارم عبر وعود الإصلاح ومغريات التشغيل والتقديمات الاجتماعية، أو عبر استخدام العنف والترهيب ضدّ المحتجين.
تبتعد الاحتجاجات الجارية في العراق تدريجيا عن الدوافع المطلبية الآنيّة التي انطلقت على أساسها بداية شهر أكتوبر الماضي، والمتعلّقة بتحسين الأوضاع الاجتماعية وتوفير الشغل ومحاربة الفساد الإداري والحكومي، إلى قضايا أكثر عمقا وأبعد مدى من قبيل إسقاط الحكومة وتغيير النظام وفكّ الارتباط بإيران.
وعمليا لم يعد الشارع العراقي الملتهب بالاحتجاجات التي عرفت انطلاقة جديدة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي يستمع إلى الوعود التي تقدّمها الحكومة بشكل شبه يومي بشأن تحسين الأوضاع الاجتماعية، ولا لأنباء إخضاع بعض الموظفين والمسؤولين من درجات مختلفة للمحاسبة.
بل إنّ المحتجّين وجلّهم من الشبان وخريجي المعاهد والجامعات المطالبين بالشغل لم يعودوا يهتمون بالاطلاع على القائمات التي تنشرها حكومة عادل عبدالمهدي بأسماء المئات ممّن تمّ قبولهم للعمل في القطاع الحكومي. وأصبح همّ المحتجّين في مختلف محافظات وسط وجنوب البلاد منصبّا على إسقاط الحكومة وتغيير النظام بشكل جذري.
ومرّ المتظاهرون من مجرّد رفع الشعارات والمطالب، إلى العمل ميدانيا على خلق حالة من الشلل في الحياة العامّة من خلال قطع الطرقات وإغلاق المؤسسات الحيوية وتعطيل المرافق العمومية سعيا إلى إرباك الحكومة ودفعها للاستقالة.
وامتدّ غضب الشارع ليشمل العلاقة غير الطبيعية التي تجمع العراق بالجارة إيران منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدّام حسين وقيام نظام الأحزاب الدينية، وهي علاقة تقوم على نوع من التبعية لطهران تسهر على تأمينها شخصيات نافذة وأحزاب وميليشيات شيعية.
وفي محافظات وسط وجنوب العراق حيث المعاقل الرئيسية لتلك الأحزاب والتشكيلات شبه العسكرية وحاضنتها الشيعية، تحوّل بند إدانة إيران والتعرّض لكبار رموزها السياسية والدينية بندا قارّا في حركة الاحتجاج.
وأفرزت الاحتجاجات مزاجا شعبيا عراقيا غاضبا من إيران وسياسياتها في العراق، ومحمّلا طهران والشخصيات والكيانات العراقية الموالية لها جزءا كبيرا من المسؤولية عمّا آلت إليه أوضاع العراق من سوء على مختلف الصعد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
وأقدم محتجّون في محافظة الديوانية بجنوب العراق في ساعة متأخرة من ليل الإثنين الثلاثاء، على تمزيق جميع صور المرشد الأعلى للثورة الإيرانية السابق آية الله الخميني. وقال مصدر أمني إنّ “صور مرشد الثورة الإسلامية السابق أية الله الخميني، كانت مثبتة على لوحات كبيرة في الشارع الرئيسي لمدينة الديوانية، مركز المحافظة التي تحمل نفس الاسم، تم إسقاطها على الأرض وتمزيقها من قبل المحتجين”.
وجاء ذلك فيما واصل محتجّون التظاهر بالقرب من مبنى القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء إثر رشقها بالزجاجات الحارقة محاولة اقتحامها ورفع العلم العراقي على أسوارها، الأحد والإثنين.
وما زاد من توجيه غضب المحتجين صوب إيران هو الزيارات المتكررة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني للعراق، وتصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي عن وجود “مخططات من الأعداء لإثارة الفوضى وتقويض الأمن في بعض دول المنطقة”.
وقال أحد المتظاهرين متحدثا من ساحة التحرير أثناء وضع مشنقة رمزية وتنصيب مجلس يمثّل “محكمة الشعب”، إنّ “الإيرانيين هم الذين يديرون البلاد، نفضل الموت بدلاً من البقاء تحت يدهم”.
ويرى متابعون للشأن العراقي أن الوضع في العراق انتهى إلى مأزق بفعل انقطاع سبل التواصل بين المحتجّين والنظام القائم الذي أصبح إسقاطه مطلبا جوهريا.
وتظهر ملامح المأزق في تخبّط السلطات إزاء تصاعد الاحتجاجات وسبل وقفها.
وأقدمت السلطات العراقية مجدّدا الثلاثاء على قطع شبكة الإنترنت بالكامل، بينما واصلت استخدام العنف في مواجهة المحتجيّن ما أوقع قتلى وجرحى في صفوفهم. وقُتل خلال ليل الإثنين الثلاثاء متظاهران في بغداد وآخران في الناصرية وقتيلان في البصرة.
وفي محافظة البصرة الغنية بالنفط، جنوب العراق، يواصل متظاهرون منذ أيام عدة غلق الطريق المؤدية إلى ميناء أم قصر، أحد المنافذ الحيوية لاستيراد المواد الغذائية والأدوية للبلاد. وغادرت غالبية السفن التجارية من دون أن تتمكّن من تفريغ حمولتها، وفقا لمصدر في الميناء.
وأغلقت المؤسسات الحكومية بالكامل الثلاثاء في مدن متفرقة بينها الناصرية والديوانية والكوت، جنوب البلاد.
ويؤكد المتظاهرون أن العنف وقطع الإنترنت بهدف تقليص أعداد المحتجين ليلا، لن يثمرا شيئا. وقال عمار (41 عاما) لوكالة فرانس برس “لقد قطعوا الإنترنت قبل ذلك، وهذه مرة أخرى، وسيكون من دون فائدة”.
وكانت السلطات قطعت الإنترنت لمدة أسبوعين الشهر الماضي، وشدّدت الخناق على شبكات التواصل الاجتماعي التي لا تزال محجوبة حتى الآن، إلا من خلال استخدام تطبيقات في.بي.أن.
وقالت منظمة نيت بلوكس للأمن الإلكتروني “إنّ هذا القطع الجديد هو أسوأ القيود التي فرضتها الحكومة العراقية منذ بداية التظاهرات”.
وقال متظاهر آخر إن “القادة لا يخيفوننا، هم من يخافوننا لأننا مسالمون”، مضيفاً “الطغاة يرحلون والناس يبقون”.
وفي إطار المشاورات السياسية بحثا عن حلول، التقى الرئيس العراقي برهم صالح في مدينة أربيل، كبار المسؤولين في إقليم كردستان العراق، ما يشير إلى حالة من القلق العام لدى الطبقة السياسية حيال إمكانية تصعيد الاحتجاجات.