يجيد الملالي تاريخيا اللعب على المتناقضات، ويعرفون كيف يعزفون على الأوتار المتقابلة إلى حد العداء، كما الحال بين كثير من دول المنطقة في الفترة الأخيرة.
خيل للملالي أن ينتهزوا وببراغماتية غير مسبوقة انشغال الجميع في الأزمة التركية، لتهدئة إشكاليتهم أو لتسويف مزيد من الوقت، ولتحقيق إضافات تراكمية لبرنامجهم النووي الماضين فيه قدما إلى النهاية من غير أن يردعهم عنه شيء أو توقفهم إرادة دولة ولو كبرى بعينها.
قبل ذلك بنحو أسبوع كان الرئيس الإيراني حسن روحاني يصرح بأن طهران ستواصل تقليص التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، إلى أن توفر الدول الأوربية الموقعة على الاتفاق ما أسماها الحماية للاقتصاد الإيراني من العقوبات الأميركية.
وللمزيد من المكايدة السياسية يرجح زراعان أن تشغيل مفاعل أراك سوف يتم في العام 2021، ويشير إلى امتلاك إيران “آلافا” من أجهزة الطرد المركزي في منشأتي ناتانز وفردو.
ما الذي يمكن للمرء استخلاصه من التصريحات الإيرانية الأخيرة السابقة؟
يمكن القطع بأن عملية الابتزاز النووي الإيراني للعالم برمته ماضية قدما، وهذا ما تنبهت له عدة مراكز دراسية في واشنطن وموسكو وبروكسيل، فالجميع يراقب بعين ثاقبة ما يجري في إيران، ولم تشغل الأزمة السورية الاخيرة المتابعين لتطورات او تدهورات المشهد الإيراني.
لم تغب النوايا النووية الإيرانية ولا تغيب عن أذهان العالم برمته، وهو كذلك الامر الذي تتنبه له، وتنبه من تأثيراته السلبية المملكة العربية السعودية، وبشكل دائم منذ بدايات الأزمة وحتى الساعة.
لم تعد مواجهة ومجابهة إيران وخطواتها المدروسة جيدا من قبلها أمرا يخص دولة واحدة بعينها، ولا حتى اقليم قائم بذاته، ففي ازمنة العولمة حيث تتداخل الخطوط وتتشابك الخيوط، يضحى الفصل بين المسافات امرا غير قائم.
من هنا يمكن للمرء تفهم ما طالبت به المملكة العربية السعودية في الأيام الماضية المجتمع الدولي من ضرورة انشاء منطقة خالية من الاسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل في الشرق الاوسط، واعتبار الامر مسؤولية دولية جماعية، وقد حثت المملكة المجتمع الدولي، والامم المتحدة والدول الاطراف في معاهدة منع انتشار الاسلحة النووية، على ان تفي بالتزاماتها حيال انشاء هذه المنطقة، خاصة الدول الموقعة للمعاهدة، تعزيزا للسلم والامن والاستقرار في منطقة الشرق الاوسط خصوصا والعالم اجمع.
يعن لنا أن نتساءل هل الأمر يتعلق بإيران فقط؟
تدرك المملكة أن الانتشار النووي يشبه احجار الدومينو، إذا سقط احدها تساقطت البقية بشكل تلقائي من ورائه، أي انه حال امتلاك دولة بعينها في المنطقة هذا السلاح، فانه سيضحى من الطبيعي جدا ان تسعى بقية دول الاقليم الى حيازة السلاح عينه، حتى تضحى هناك توازنات اقليمية، لا سيما من حيث القوة العسكرية.
إدراك المملكة العربية السعودية سليم وسديد إلى أبعد حد ومد، واستشرافاتها تقدمية لا جدال في ذلك، الامر الذي تبدى بالفعل كحقيقة على الارض في الايام القليلة الماضية من خلال ما اشارت اليه صحيفة النيويورك تايمز الاميركية الشهيرة، عن رغبة تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان في حيازة صواريخ نووية مثل الآخرين، وكان الرئيس التركي قد اشار الى ذلك بالفعل، لا بالتلميح بل بالتصريح، في مؤتمر اناضول الاقتصادي الاخير، ومؤكدا ان الآخرين يمتلكون صورايخ نووية، ويمنعوننا من ان نمتلكها، ومضيفا “انا لا اقبل ذلك”.
يدرك أردوغان أن إيران نووية، قوية وفتية، أمر لا يصب في صالحه اليوم ولا غدا، وقد خلفت الازمة التركية الاخيرة استحقاقات لم تقدر طهران على أن تداريها او تواريها، اذ اعتبرت ان أي خطوة من جانب تركيا لاقامة قواعد عسكرية في سوريا ستكون غير مقبولة، ومؤكدة ان هذا قرار سيواجه معارضة شديدة من طهران.
وفي رد على سؤال في مؤتمر صحافي انتقد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية عباس موسوي الخطة التركية قائلا إن الاتراك بوسعهم إقامة أي قواعد وفعل أي شيء على اراضيهم وداخل حدودهم، لكن اذا كنت تعني إقامة قواعد عسكرية في سوريا فإن هذا غير مقبول.
ما الذي يعنيه التصريح السابق؟
إذا قرأنا المشهد بالمعكوس فإنه يبقى من الطبيعي أن يسعى أردوغان لإقامة توازنات نووية أن جاز التعبير، ما يعني ان تحذيرات المملكة من الانتشار النووي امر حقيق بالمجتمع الدولي ان يتنبه اليه وبأقصى سرعة ممكنة.
في حواره الأخير مع صحيفة “دي فيلت الألمانية” كان الرئيس الأسبق للاستخبارات السعودية الامير تركي الفيصل يؤكد على أن ايجاد حل للأوضاع المتدهورة في منطقة الخليج العربي امر يحتاج الى اجماع عالمي في مواجهة ايران، ومشيرا الى ان ما جلب الايرانيين الى طاولة المفاوضات في عام 2009 حول برنامجهم النووي كان العقوبات القاسية.
هل يعني التصريح السابق والمهم أن كافة العقوبات المفروضة على إيران حتى الساعة لم تردع ايران عن غيها السادر نوويا وصاروخيا وفي بقية مناحي النوايا السيئة؟
الجواب يأخذنا إلى التقرير الذي نشرته مجلة الفورين بوليسي الذائعة الصيت في الايام القليلة الفائتة لكاتبيه آريان طبطبائي، وكولين كلارك، وفيه ان سياسة الضغط الاقصى التي تتبعها ادارة ترمب ضد ايران قد اضرت بالفعل بالاقتصاد الايراني، ولكنها ليست كافية لردع ايران وتغيير مسار سياساتها الخارجية والامنية، اذ لاتزال ايران قادرة على دعم وكلائها في المنطقة مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا.
ما الذي نخلص إليه؟
يمكن للمرء أن يستنتج أن سياسة الضغط الاقصى الاقتصادية التي تتبعها ادارة الرئيس ترمب، تحتاج الى زخم دولي من بقية الاقطاب الكبرى، لا سيما روسيا والصين، ما يثبت نجاعة الرؤية الاستشرافية السعودية، وما عدا ذلك فهو رهان خاسر سيؤدي الى انتشار نووي سيدفع الجميع ثمنه اليوم وغدا والى ما شاء الله.