يصنف المؤرخون الشهيد الثائر علي ناصر القردعي بقائد أول ثورة دستورية في الوطن العربي، ضد أعتى نظام رجعي عرفه تاريخ المنطقة؛ لذا فقد كان 17 فبراير 1948، يوم فارق في تاريخ اليمن، يجب على كل اليمنيين عدم نسيانه، وهم في طريقهم اليوم، نحو الانعتاق من الكهنوتيين الجدد في صنعاء.
صحيح أن هذه الثورة انتهت بالفشل، فقد ساق الطغيان المنتصر قادتها إلى المشانق، وذهب إلى تعليق رؤوسهم في مداخل بعض المدن للتخويف والإرهاب. وتأتي المحاولة الثانية في شكل انقلاب إبريل 1955م، الذي انتهى بقطع رؤوس القائمين به، وكانت دماؤهم الزكية -كدماء أسلافهم- وقوداً للتغيير الكبير والشامل الذي تجسد في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م التي نحتفل اليوم بذكراها الـ57، وهي الثورة التي نجحت بعد أن تكالب عليها أعداء كثيرون، وكانت بمنزلة إعلان حاسم بتحرير جنوب البلاد من الاحتلال البريطاني وخلاص اليمن بشطريه: المحتل والمعتل، من الحكم الأجنبي والحكم الملكي المتخلف معاً.
أكبر ثورة بعد الحرب العالمية الثانية
جاء في كتاب (تاريخ اليمن المعاصر) تأليف مجموعة من الكتاب السوفييت، وترجمة محمد علي البحر: «ساهمت ثورة 1948بدور كبير في تاريخ اليمن الحديث، إذ تعتبر هذه الثورة أكبر حركة تمرد بعد الحرب العالمية الثانية لممثلي مختلف الطبقات وفئات المجتمع اليمني، ومحولتهم للقضاء على النظام الإقطاعي المستبد.
إن فضل الذين شاركوا في هذه الثورة يكمن في أنهم أيقظوا في جماهير غفيرة من سكان اليمن الوعي بقدرة الشعب إن أرادوا على تقرير مصيره وتحمل المسؤولية عن أعماله».
عن حياة القردعي
ولد المناضل والثائر والشاعر اليمني البطل علي بن ناصر القردعي كما رجحت أغلب المصادر سنة 1302هـ في قرية رحبة بمراد محافظة مارب، وهي موطن القرادعة جميعاً الذين ناضلوا معه لا يزالون حتى اليوم يسيرون على خطاه.
اشتهر على ناصر القردعي في صباه بالشجاعة والحكمة والتواضع ونصرة المظلوم ومقاومة الظلم. ومنذ صغره تعرف القردعي على الحكم الإمامي وأسلوبه البغيض في التفرقة بين الناس، فحاربه منذ البداية ومنعه من السيطرة على مراد حفاظاً على تماسكها وقوتها، خصوصا منذ وفاة أبيه ناصر بن مسعد القردعي وحلوله محله كشيخ لمشايخ مراد كافه مما جعل الإمام يحيى يناصبه العداء ويضمر له الحقد وتتربص به الدوائر.
الإمام يستدرج القردعي
حاول الإمام يحيى استدراج علي بن ناصر القردعي وكسبه إلى صفه فعينه عاملاُ على حريب، مكث في هذه الولاية مدة أربع سنوات ولكنه لم ينسجم مع أعمال الإمام وأذنابه، ولم يرض على الظلم والتعسف، فكثرت الشكاوى به تحت مبررات عدة.
استدعى الإمام يحيى القردعي، وأمر بسجنه بسجن القلعة في صنعاء حوالي أربع سنوات ولكنه ما لبث أن سخر من تلك الأغلال والسلاسل التي تطوقه والأبواب التي تغلق عليه فكسرها جميعاً مع رفيقه الحميقاني وهرب ناشداً الحرية التي لم تمنح له إلا ببطولته وجسارته وذهب يعري بشعره البليغ الوضع الفاسد، ويشهر بالحكم الإمامي، ويؤلب القبل والشعب اليمني ضد حكمه الجائر والمستبد.
حاول الإمام استخدام الحيلة معه وقبل وساطة بعض الوجهاء والمشايخ وأرسل عفوا لعلي ناصر القردعي، وأعطاه الإمام وأرسله إلى شبوة لغرض تحريرها من قبضة الانجليز واعدا له بالدعم والمدد.
وهناك في شبوة سجل القردعي البطولات الرائعة ملقنا الإنجليزي المحتل دروسا قاسية ولكنه خذل بالتآمر «الإنجلو الإمامي» على حياته وانسحب تحت قصف الطائرات الإنجليزية.
ثم عاد الى صنعاء بعد الغدر الإمامي، بعد أن أفشل المخطط الفاشل الهادف إلى التخلص منه وإلى الأبد.
طبيعة حكم الإمام يحيى لليمن
في سنوات حكم الإمام يحيى عاش معظم اليمنيين في ظل ظروف من الفقر المدقع وفي أحوال صحية سيئة تسببت مع سوء تغذيتهم في خلق مستويات بدنية رقيقة وعانى الكثيرون من أمراض سوء التغذية والملاريا، وانتشر فيهم مرض التراكوما، وشهد اليمن في تلك السنوات أعلى نسبة وفيات للأطفال في العالم. كما سادت من حين لآخر هجمات من مرض التيفوس وأمراض أخرى مشابهة. وساد في هذه الفترة بحق قانون البقاء للأقوى والموت المبكر للأقل تحملا.
كانت الرعاية الصحية أمراً غير مألوف بالمرة لأغلبية اليمنيين، لقد كان لقوات الأتراك مستشفياتها الخاصة بجنودها وموظفيها ولم يكن أطباؤها يعنون بالمواطنين، وعندما انسحبت تلك القوات أخذت معها كل الإمكانات الطبية.
حكم الإمام يحيى اليمن حكماً دينياً أوتوقراطياً، وظل يصرف شؤون الدولة طبقا لنزعاته الخاصة. كما أنه ظل يحافظ على عرشه ويوسع من سلطاته باستخدام فئة أو قبيلة ضد أخرى وبنظام الرهائن والرشوة والترهيب وتحريض وتشجيع الخصوم ضد العناصر الخطرة التي تظهر على السطح حتى يتم صرف واستهلاك نشاطهم واهتمامهم في المنافسات المعادية. كما أنه عمل بجد على تركيز السلطة بين يديه.
وقد وجه الإمام يحيى في أن أي تذمر ضد سلطة الإمام سيكون موجها بعقوبة الموت. إضافة إلى ذلك استمر الإمام يحيى في فرض غرامات باهظة على الأسر والقبائل اليمنية، وغالبا ما كانت تتم مصادرة الممتلكات الخاصة لمجرد الشك في عدم الولاء ربما لا لشيء سوى سقطة تعبير أو زلة لسان غير مقصودة.
وكان قطع الرأس أمرا شائعا لتنفيذ عقوبة الاعدام، يضاف إلى ذلك التمثيل بالرؤوس المقطوعة علناً حتى تكون عبرة للغير.
القردعي مع حركة الأحرار
في وقت مبكر انخرط القردعي في حركة الأحرار اليمنيين، وحضر العديد من الاجتماعات وأسهم برأيه السديد في تسديد خطى الحركة وتقويتها، وكانت الحركة قد تأسست في عام 1934م، وكان الإمام يسميها بحركة الأشرار.
التخلص من حكم الإمام يحيى
عندما ضاقت الأمور مع الامام يحيى وبالاتفاق مع عبدالله الوزير، طلب القردعي فتوى شرعيه تجيز تغيير هذا الحاكم وقتله ورفض الاشتراك في هذه الحركة الا بناء على تلك الفتوى، مما اضطر العلماء المنخرطون في الحركة وعلى رأسهم عبدالله الوزير الى كتابة فتوى معمدة بحكم شرعي صدر تحت توقيع لجميع العلماء وعمدته محكمة المقام الإمامي آنذاك برئاسة محمد الوزير حاكم المقام، وتلك الفتوى تجيز الإطاحة بالإمام يحيى وقتله جزاء بما ارتكبه في حق الشعب من ظلم وقتله من أبنائه وعلمائه بغير ذنب..
لم يكن أمرين فقط ما طلبه القردعي مجرد فتوى شرعية بجواز قتل الإمام يحيى، لكنه اشترط أمرين: الاول فتوى شرعية والثانية اشتراك مجموعه من رؤساء القبائل حتى يتفرق دم الامام بين القبائل ولا تؤاخذ قبيلة دون أخرى وكان معه عند تنفيذ الاغتيال من بني حشيش (آل الحسيني) وآل داوود من «برط» آل أبو رأس، ومن بني الحارث «آل هارون» ومن بقية المناطق اليمنية ومن أصحابه القرادعة منهم الشهيد محمد صالح القردعي وعبدربه علي، وقد استشهدو في خولان كما استشهد معه الكثير.
القردعي ينفذ المهمة
حمل علي ناصر القردعي الفتوى الشرعية وذهب ينفذ باقتدار بطولي باشتراك مع إخوانه وزملائه المناضلين من القرادعة وزعماء وممثلي القبائل اليمنية الأخرى.
وصل الثائر البطل صنعاء، وفي صنعاء حددت ساعة الصفر وكان يوم 17 فبراير 1948م هو اليوم لمقتل الإمام يحيى حميد الدين وإشعال الثورة. وكانت الخطة مبنية على أن يستقل الثوار الأحرار المنفذون سيارة كبيرة مغطاة (بطربال) إلى المكان المحدد بسواد حزيز حيث سيزور الامام إحدى القطاعات المملوكة له هناك. وتصل السيارة محملة حملا ثقيلاً من أماجد الرجال وأشجعهم بقيادة علي ناصر القردعي، ونزل مجموعة منهم ووضعوا الحجارة على طريق السيارة التي سيعود بها الامام منها، وتحركت السيارة إلى مكان بعيد عن الطريق الترابي التى ستمر منها سيارة الإمام، وهنا أصدر القردعي أوامره بتوزيع المهام، فبنى له (مكمنا) في مكان مرتقع و قريب من الطريق ليتمكن من مشاهدة من بداخل السيارة الأمامية، ويتمكن بالتالي من اقتناص من يود اقتناصه بسهولة أما رجاله فقد وزعهم في كمينين أحدهما في الجانب الشرقي للطريق والاخر في الجانب الغربي منه، وهنا شرح لهم كيفية تنفيذ المهمة. أخبر القردعي زملاءه: عند وصول سيارة الإمام ستتوقف أمام المانع الذي صنعناه بالحجارة. سينزل حرس الإمام ببنادقهم لإزالة الاحجار وعلى الكمين الواقع في الجانب الشرقي ان يطلقوا عليهم النار فورا. وبالطبع سينزل الحرس الاخرون على كمين الجانب الغربي للطريق وما عليكم سوى اغراقهم بوابل من الرصاص الكثيف. اما بالنسبة لي فسوف اتكفل بقتل الطاغية من أية جهة تراه عيني.
وماهي إلا ساعات معدودة حتى وصلت سيارة الإمام ونزل الحرس الامامي وفتحوا أمانات بنادقهم. عندها صاح البطل القردعي على أصحابه ( اطلق) وتنطلق الرصاص من كل جانب، و بدوره اقتنص القردعي رأس الإمام وألقاه صريعا، ولم يتوقف رصاص الثائرين إلا بانتهاء سيارة الإمام ومن فيها.
كان من ضمن من نفذوا مهمة قتل الإمام مع القردعي من أصحابه من (مراد والرادعة) محمد صالح القردعي، عبدربه علي القردعي، على عبدربه الطيارة، ناصر العقال، عبدالله قاسم بحيبح وحسين محد القردعي و علي بن علي الذيب وآخرين من دونهم، إضافة إلى آل الحسيني وآل داوود و آل أبو رأس وآل هارون.
بعد مصرع الطاغية
بعد ذلك كلف القردعي مع مجموعة من الثوار باحتلال (قشلة) نقم وحمايتها خوفا من تقدم الملكيين بعد تأليب أحمد يحيى حميد الدين للقبائل وأمر بنهبها وحوصر القردعي حوالى عشرين يوماً حتى انقطع عليه الزاد والماء والمدد بعد سقوط صنعاء.
وفر القردعي ومن تبقى معه نحو خولان، وهناك في منطقة الشررة حوصر من قبل قبائل الامام واستشهد وهو يقاتلهم، ولقي ربه راضيا، حز رأسه بأمر أحمد، وعلق في باب اليمن لمدة شهرين تنكيلا بالبطل وتشهيرا به.
معركة القردعي مع النمر
كثيرة هي الحكايات والبطولات المنقولة عن الشهيد علي ناصر القردعي التي تصل في سردها حد الأسطورة، لكنها في حقيقتها ليست ببعيدة عن شخصية ثائرة وشجاعة نبيلة بحجم الشهيد القردعي. ونحب أن نورد للقارئ هنا إحدى هذه الحكايات.
في شبابه كان الشهيد علي ناصر القردعي يرعى في المراعي قطيعاً من الشياة والنعاج والخرفان والماعز..، وفي غفلة منه وثب أحد النمور على قطيع من الشاة الخرفان والنعاج مفترسا بعضا منها ثم انسل يعدو إلى كهفه في سفح أحد الجبال، وهنا ثارت ثائرة البطل وانتابه الحياء والخجل في أن تعتبره عشيرته جبانا بتقاعسه عن ملاحقة النمر وقتله فاقسم البطل أن يقتل ذلك النمر مهما كلفه من ثمن. إضافة إلى ذلك فقد آل على نفسه الا يقاتل أو يقتل النمر ببندقيه أو سيف، بل بسلاحه الأبيض وهو سلاح الإنسان اليمني وشخصيته (الجنبية).
احتزم القردعي بجهازه وجنبيته وظل يقتفي أثر النمر حتى عرف مكمنه في كهف بسفح الجبل الذي كان يأوي إليه، وأخذ فروعا من شجرة الدوم وهي أشجار ذات شوك لا لكي ينفذ بها ضربات على النمر بل لكي يتحرشه بها ليخرجه من مكمنه، وفعلا لقد خرج النمر لكي يفترس هذا الذي جاء لكي يتحدى أمير الوحوش.
وهنا دارت المعركة بين أمير النمر وبين علي ناصر القردعي الذي ظل يكيل الطعنات (بجنبيته) للوحش الضاري الشرس حتى قتله، ويروي أنه كان يستفز النمر ويتحرشه، ولكن القردعي لم يخرج سالما من هذه المعركة الدامية، فقد دفع ثمنا لتلك الشجاعة فقد تمكن النمر من ضرب القردعي بمخالبه فشرم جزءا من أنفه ونزع إحدى عينيه وحينها حمله على كتفيه إلى داره، وفي حي قريته ألقاه على الأرض والدماء تسيل منه ومن الجرحين بأنفه وعينه وهو شام