لا يقدّم التصعيد الإيراني في مياه الخليج ولا يؤخّر، عفوا إنّه يقدّم، نظرا إلى أنّه يساعد في كشف طبيعة النظام الإيراني أكثر لدى أولئك الذين لا تزال لديهم أي أوهام في هذا المضمار.
كانت الولايات المتحدة على حقّ عندما قررت إرسال تعزيزات عسكرية إلى الخليج، من بينها حاملة الطائرات آبراهام لنكولن في ضوء التخوف من أعمال إرهابية إيرانية ردّا على تشديد العقوبات على “الجمهورية الإسلامية”. جاءت الاعتداءات التي تعرّضت لها أربع سفن بينها ناقلتا نفط سعوديتان وسفينة نروجية قبالة ميناء الفجيرة الإماراتي لتؤكد صحّة المخاوف الأميركية. يحدث ذلك في وقت لم تجد إيران سوى اتباع أساليب قديمة في إخفاء دورها والتظاهر بأنها حمامة سلام وحريصة على الاستقرار في المنطقة. هذا ما يفسّر كلام مسؤولين إيرانيين عن أن طرفا “ثالثا” وراء التصعيد والاعتداء على السفن عن طريق زوارق صغيرة موجهة مزودة بمواد تفجيرية.
ألحقت هذه الزوارق الصغيرة الموجهة أضرارا متوسطة بالسفن الأربع. أصحاب السفينة النروجية يقولون إنّها كادت تغرق وأن التفجير الذي تعرّضت له خلّف فجوة مستديرة في الهيكل.
عاجلا أم آجلا، سيكشف التحقيق أنّ إيران وراء ما أصاب السفن الأربع، وأن موقع التفجيرات كان اختيارا دقيقا، ذلك أن ميناء الفجيرة ليس بعيدا عن مضيق هرمز، وهو يستخدم لتفادي عبور النفط في هذا المضيق الاستراتيجي ذي الأهمّية الحيوية.
كان ملفتا أن وسائل إعلام تابعة للأجهزة الإيرانية كانت أوّل من تحدّث عن التعرّض للسفن الأربع، وذلك قبل صدور بيان عن وزارة الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة، يوضح ما حدث من دون توجيه أيّ اتهامات إلى أي جهة. من الواضح أن هناك رسالة إيرانية إلى دول الخليج العربي وإلى الإدارة الأميركية في وقت بدأت طهران تكتشف أن العقوبات التي فُرضت عليها ليست مزحة.
لا يزال باكرا الكلام عن انفجار كبير في المنطقة. لكن ما لا بدّ من التوقّف عنده أن إيران يمكن أن تذهب بعيدا في تحدّي الولايات المتحدة. يعود ذلك إلى سببين أوّلهما الحاجة إلى شدّ العصب داخليا وتصوير أن الشعب الإيراني كلّه في مواجهة عدوان خارجي. أمّا السبب الآخر، فهو رهان مسؤولين إيرانيين على أنّ لدى إدارة دونالد ترامب أولويّات أخرى في مقدّمها الحرب التجارية مع الصين، وأن ثمّة هامشا يمكن أن تستخدمه “الجمهورية الإسلامية” لممارسة لعبتها المفضّلة. تتمثل هذه اللعبة في استخدام الميليشيات المذهبية من أجل السير قُدما في المشروع التوسّعي القائم على “تصدير الثورة”.
شيئا فشيئا يزداد التصعيد في المنطقة. ليس انسحاب الحوثيين فجأة من ميناء الحديدة اليمني على البحر الأحمر سوى جزء من هذا التصعيد الإيراني المدروس. بعد انسحاب الميليشيا الحوثية (أنصار الله) من الحديدة، ستلجأ إيران، بطريقة أو بأخرى، إلى تنفيذ عمليات تخريب في البحر الأحمر تستهدف سفنا تمرّ عبر مضيق باب المندب. لن تعود حجة لدى الآخرين لتحميلها مسؤولية عمليات التخريب هذه ما دام الحوثيون صاروا خارج الحديدة!
هناك لعبة مكشوفة لم تعد تنطلي إلا على السذّج. هناك إدارة أميركية تعرف تماما ما هي إيران وتمتلك دفتر شروط عليها التزامه في حال كانت تريد العودة إلى وضع الدولة الطبيعية. أي إلى وضع الدولة التي لا تشكل تهديدا لجيرانها ولا تمتلك أوهاما مبنية على اعتقادات خاطئة من بينها أنّ لديها ما تستطيع تصديره إلى محيطها وإلى العالم غير البؤس والتخلّف.
في النهاية إن الفشل الإيراني الأكبر منذ قيام الثورة الشعبية التي أطاحت الشاه هو في بناء اقتصاد قوي متنوّع يجعل “الجمهورية الإسلامية” لا تعتمد كلّيا على تصدير النفط والغاز. هناك بلد فاشل اقتصاديا يريد قيادة المنطقة. هل هذا طبيعي… أم أن الطبيعي أن تعود إيران إلى حجمها وتتوقف عن لعب أدوار تتجاوز هذا الحجم. مثل هذه الأدوار مسموح بها، إلى حين، ما دامت تخدم السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية القائمة على تدمير المجتمعات العربية وإثارة الغرائز المذهبية.
هل تدرك إيران ما الذي فعلته إلى الآن في هذا البلد العربي أو ذاك، خصوصا في العراق وسوريا ولبنان واليمن… وحتّى في البحرين والأراضي الفلسطينية، في غزّة تحديدا؟ من استفاد من كل ما قامت به في هذه البلدان غير أميركا وإسرائيل، أي “الشيطان الأكبر” و”الشيطان الأصغر”؟
في العام 1979، نجح آية الله الخميني، مع آخرين، في قلب نظام الشاه. نجح في التملّص من الآخرين وأنشأ “الجمهورية الإسلامية” التي راحت تبحث عن عدوّ خارجي. أدّت الاستفزازات الإيرانية للعراق إلى ارتكاب صدّام حسين حماقته المتمثّلة بإعلان الحرب على إيران. كانت تلك حربا احتاج إليها الخميني لتعزيز وضعه الداخلي أوّلا، وإرسال الجيش إلى الجبهات ثانيا وأخيرا. كان التصعيد مع الخارج هدفا بحدّ ذاته لمؤسس “الجمهورية الإسلامية” الذي احتاج إلى استثارة الروح الوطنية الفارسية.
تلجأ إيران في عهد “المرشد” علي خامنئي إلى أساليب قديمة في عالم تغيّر. قبل كلّ شيء، إن دول الخليج العربي التي تعاني من الممارسات الإيرانية ومن الاستفزازات ليست صدّام حسين. إلى جانب ذلك، إنّ الإدارة الأميركية الحالية ليست إدارة جيمي كارتر الذي كان يتمتّع بمقدار كبير من السذاجة والميوعة إلى درجة أنّه راح يتفرّج على إيران بعد احتجاز عناصر من أجهزتها الأمنية دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران التي سميّت “عشّ الجواسيس”. اكتفت إدارة كارتر بمحاولة يتيمة لإنقاذ دبلوماسيي السفارة. ولمّا فشلت تلك المحاولة استسلمت للقدر ولابتزاز محتجزي الدبلوماسيين في عملية استمرّت 444 يوما انتهت بخسارة جيمي كارتر الانتخابات الرئاسية أمام رونالد ريغان في خريف العام 1980.
تلك كانت مرحلة من الماضي. لا دول الخليج صدّام حسين، ولا إدارة دونالد ترامب إدارة جيمي كارتر أو رونالد ريغان الذي كان عقد سرّا صفقة مع الإيرانيين عبر بيل كايسي (مدير السي.آي.إي في عهده). قضت تلك الصفقة بامتناع إيران عن إطلاق الدبلوماسيين الأميركيين المحتجزين في طهران قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. أمّنَ ذلك السقوط الحتمي لكارتر في تلك الانتخابات.
هناك لعبة تمارسها إيران، سبق أن سمّيْتُها، في مقال سابق، لعبة التذاكي. لن تنفعها هذه اللعبة في شيء ما دامت لا تريد مساعدة نفسها أوّلا. كيف تساعد نفسها؟ الجواب أن ذلك يبدأ باستيعاب أن العالم تغيّر، وأن أميركا والدول الخليجية تعرفها جيّدا. لن يفيدها في شيء تفجير سفينة هنا أو هناك، أو خطف جنود أو مواطنين أميركيين… أو شيء من هذا القبيل. يُفترضُ في إيران مواجهة الواقع بعدما أثّرت العقوبات فيها إلى درجة كبيرة وكشفت للعالم أنّها ليست سوى دولة من دول العالم الثالث أو الرابع أو الخامس، ليس لديها ما تصدّره سوى العنف والابتزاز… والغرائز المذهبية. لماذا لا تبحث إيران عن بضاعة مختلفة تصدّرها؟
* نقلا عن “العرب”