نجاد الذي أتم الجانب الروحي من زيارته النجفية، لم تفتح له المرجعية العليا أبوابها. فقد غادر المدينة دون أن يلتقي آية الله السيد علي السيستاني. وهو رجل الدين صاحب النفوذ الكبير، وينظر إليه بإجلال بين المرجعيات الروحية المختلفة، لما يمتاز به من خطاب معتدل عقلاني، بعيد عن التطرف والطائفية.
وزير الخارجية الإيراني الأسبق منوشهر متكي، كان نجح العام 2010، في ما فشل فيه رئيسه نجاد. حيث تمكن من لقاء المرجع السيستاني، خلال خلوة استمرت نحو ساعة، نقل فيها تحيات الرئيس أحمدي نجاد، و”تقديره للجهود التي بذلها السيستاني من أجل الشعب العراقي وإنجاح العملية السياسية”، بحسب ما نقلته حينها صحيفة “الحياة” اللندنية.
الرئيس السابق للسلطة القضائية في إيران، آية الله السيد محمود الهاشمي، الذي وافته المنية في ديسمبر 2018، زار مدينة النجف في سبتمبر 2017، وهو الذي كان أحد أبرز تلامذة الراحل آية الله السيد محمد باقر الصدر وتربى في كنف حوزة النجف سنوات طويلة.
وكان يُقدم في الأوساط العلمية بأنه واحد من أنجب الشخصيات العلمية المؤهلة لتولي منصب المرجعية الدينية، لما يتمتع به من اطلاع علمي، وعمق في علوم الفقه والأصول والحديث والعقائد والقرآن. إلا أنه رغم كل هذه المؤهلات، لم تتح له في زيارته الأخيرة لمدينته الأثيرة، أن يلتقي المرجع السيد علي السيستاني. مما دفع مكتب الهاشمي، لإصدار بيان توضيحي، لرفع الحرج، جاء فيه “سفر سماحته إلى العراق، هي سفرة غير رسمية، وهدفها زيارة العتبات المقدسة والمشاهد المشرفة ومراقد الأئمة الأطهار”!.
عدم استقبال المرجعية العليا في النجف للرئيس أحمدي نجاد أعطت إشارات حينها بعدم رضى السيستاني عن السياسة التي يتبعها الرئيس الإيراني، خصوصا التصعيد الكلامي في خطاباته، والذي أدى لتوتير العلاقة بين إيران وجيرانها في الخليج. ولذا لم يرد منحه تأييدا ولو صوريا لما يقوم به من أفعال، تخالف في جوهرها ما يؤمن به السيستاني، من أهمية أن يسود الخليج خطاب سياسي متزن وعقلاني، بعيد عن التوتر.
أما فيما يخص عدم الترحيب الضمني بزيارة آية الله الهاشمي شاهرودي للنجف، فيعود إلى علاقة الهاشمي اللصيقة بمرشد الثورة آية الله خامنئي، والقلق الذي ساد الأوساط المحافظة في حوزة النجف، من وجود نية لدى طهران في اختراق الحوزة النجفية، وتنصيب الهاشمي فيها مرجعاً، وهو الذي يتمتع بكافة المؤهلات العلمية.
يضاف إلى ذلك، أن آية الله الهاشمي، يؤمن بولاية الفقيه العامة، على العكس من أغلب مرجعيات النجف. فضلا عن انخراطه المبكر في العمل السياسي، عبر “حزب الدعوة الإسلامية”، و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق”، وهي النشاطات السياسية التي تفضل المرجعيات التقليدية في الحوزة الابتعاد عنها.
على العكس من أسلافه، الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي زار النجف في مارس الجاري، وحظي بلقاء المرجع الأعلى آية الله السيستاني. إضافة للمراجع الكبار الثلاثة، آيات الله: محمد سعيد الحكيم، بشير النجفي، إسحاق الفياض. وهي اللقاءات التي أعطت انطباعا عاما، عن وجود رضى بين المرجعيات النجفية عن شخص روحاني، ودعما ضمنيا لخطابه المعتدل، ومساعيه لتخفيف التوتر بين إيران وجيرانها العرب.
حسن روحاني، أول رئيس جمهورية إيراني، تستقبله المرجعيات النجفية الكبيرة جمعاء في يوم واحد. والعارفون ببروتوكول المرجعيات الدينية، يدركون أن زيارة روحاني لم تكن لتتم، لولا إعطاء الإذن والموافقة من مكاتب هذه المرجعيات مباشرة.
إذا استثنينا السيستاني، الذي يتابع الشأن السياسي، وله رأي فيه، دون أن يدخل في تفاصيله. فإن المرجعيات الأخرى تتسم بالكلاسيكية، والاهتمام بالفقه والعقائد. وهي تحظى بعشرات ملايين الأتباع من المسلمين الشيعة، في مختلف أنحاء العالم. كما أنها مرجعيات مستقلة في قرارها الديني والإداري، ولا تخضع لسلطة طهران أو سواها.
المرجعية النجفية، لها امتداد واسع جدا، وتحديدا خارج إيران، بين المسلمين الشيعة، سواء في العالم الإسلامي، أو أوربا والولايات المتحدة. وينظر لها على أنها صمام أمان، يحيد أتباعها من المؤمنين، عن التداعيات السلبية الناتجة عن الخلافات بين إيران ودول الخليج والولايات المتحدة. لأن ما يهم هذه المرجعية هو سلامة أوضاع أتباعها الروحيين، واندماجهم في أوطانهم، واستقرارهم. ولذا تهتم دائما بالفصل بين الديني والسياسي.
السيستاني، الذي يمثل ذروة سنام المرجعية النجفية، وأثناء لقاء الرئيس حسن روحاني، شدد على مبادئ، رئيسة، تمثل أهمها في التالي:
1. تعزيز علاقات العراق بجيرانه، وفقاً لمصالح الطرفين.
2. احترام سيادة الدول.
3. عدم التدخل في الشؤون الداخلية.
4. حصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها الأمنية.
5. ضرورة أن تتسم السياسات الإقليمية والدولية في المنطقة بالتوازن والاعتدال.
6. تجنب شعوب المنطقة المزيد من المآسي والأضرار.
هذه الخطوط العامة التي تحدث بها آية الله السيستاني مع ضيفه روحاني، تمثل جوهر التفكير السياسي لمرجعيته. وتتضمن رسائل واضحة عن أهمية أن تطوى حقبة التوتر الأمني والعسكري والسياسي الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط. وأن يتحمل الإيرانيون والعراقيون مسؤوليتهم في هذا الصدد.
السيستاني لا يريد للعراق أن يتحول لساحة يعيث فيها سلاح المليشيات خرابا. وهو يرفض أن تتخذ طهران من العراق منصة انطلاق لمحاربة خصومها.
قد لا يكون الرئيس روحاني معنيا بشكل مباشر بحديث السيستاني، وإنما هنالك قوى إيرانية رئيسة وفاعلة، موجه لها الكلام بشكل رئيس، وهي: الحرس الثوري، فيلق القدس، والتيار الأصولي الذي يؤمن بتصدير الثورة.
الكثير من الدماء أريقت في منطقة الشرق الأوسط، وتحولت عدة دول إلى كيانات فاشلة. هي الأخرى الأصوات الطائفية والخطابات السياسية المتشنجة مازالت تحضر وبقوة. والسيد السيستاني يعلم أن لا سبيل لمواجهتها إلى بالتأكيد على السياسة المتزنة والاعتدال والسلم الأهلي ونبذ العنف، وهو ما حث ضيفه عليه، لعل طهران تأخذ بنصيحة الأخ الأكبر، وتساهم بفاعلية في استقرار المنطقة، وتتواصل مع جيرانها العرب في الخليج، لما فيه مصلحة الجميع، تحت شعار المصالح المشتركة، واحترام سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.