بينما تنحدر أغلب مدن اليمن نحو خطر المجاعة، فإن سكان مدينة “مأرب” الصحراوية يمكنهم شراء أطعمة لم يتذوقها اليمنيون لسنين طويلة.
ويعود ذلك، إلى النمو المتسارع، الذي تشهده المدينة بما ينتشر فيها من معامل طوب تعمل بشكل سريع جدًا على بناء الأحياء الجديدة ،التي تقام على الرمال، وهو ما جعل من “مأرب” نقطة مضيئة في دولة مستقبلها مجهول.
ويسجل ذلك لحكومة إقليم مأرب ،التي استخدمت عوائد النفط، والسياسات القبلية لتقليل أثر الحرب، موفرةً بذلك درجة من الأمان، والخدمات تُفتقد في أماكن أخرى.
وساهم استقرار “مأرب” النسبي في جذب اليمنيين الهاربين من مناطق العنف، وذلك أسهم في جلب بعض الهاربين النقود لشراء العقارات، والبدء في إقامة أعمال جديدة.
وقال عبد الرزاق نقيب، مشرف إنتاج في شركة “نفط صافر” اليمنية: “إنه نجاح في ظروف استثنائية مثل الحفر في الصخور بيديك”، على حد تعبيره مستخدمًا مثلًا يمنيًا يقصد به تحقيق المستحيل.
وخلال رحلة تمت مؤخرًا ومدتها 4 أيام إلى “مأرب” برفقة مجموعة من الصحافيين الغربيين والباحثين، قال كاتب في صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية: إنه “شاهد مدينة تكافح من أجل حياة طبيعية، رغم انهيار الدولة من حولها”.
ونظّمت الزيارة من قبل “مركز صنعاء” للدراسات الإستراتيجية، وهي مؤسسة بحثية تركّز على شؤون اليمن، بقيادة فارع المسلمي، وهو باحث يمني شاب، والذي قال بدوره إنه: “يشعر بالقلق حيال نسيان المجتمع الدولي لليمن، وفي هذا خطر على الاثنين”.
وأضاف: “لا يمكننا وقف الحرب في اليمن الآن، لكن على الأقل يمكننا القيام بحوار أكثر حول الأمر. نريد أن نجلب العالم إلى اليمن ،وأن نأخذ اليمن للعالم”.
قيادة منفصلة وكفاح للبقاء
ويعتبر النجاح، الذي لم يكن في الحسبان لمدينة “مأرب” مؤشرًا على التفكك التام للدولة اليمنية، الأمر الذي ترك الأقاليم تتصرف بنفسها لتوفير أساسيات العيش لسكانها.
لكن المكونات التي تجعل الأمر ممكنًا هي الروابط الجيدة مع السعودية، واحتياطيات النفط والغاز، وحاكم ذو نظرة بعيدة المدى تجعل من الصعب على مدن يمنية أخرى إعادة تطبيق ذلك، ورغم الإنجاز الذي تم هناك، فإن التهديدات الأمنية والفقر مستمران.
وكان في مركز هذا الصعود لمدينة “مأرب” حاكم الإقليم، سلطان العرادة، والذي استضاف مجموعة الصحافيين والباحثين وأمّن لهم موكبًا مسلحًا لاصطحابهم من المطار ،وحراسة الفندق، والتجول معهم في المنطقة.
وكان من الواضح، حسب الصحيفة، أن العرادة أراد أن يريهم تقدّم المدينة، بينما يعمل على رفع مكانته السياسية. فبعد أن صدرت تقارير الجهات الإعلامية المحلية عن الزيارة، عمل الرئيس اليمني ورئيس وزرائه على الاتصال بالحاكم لتهنئته، في حين أثار نمو مدينة “مأرب” دهشة اليمنيين خارج المدينة.
وحتى سنوات قليلة ماضية، كان في المدينة بضعة شوارع معبدة فقط، وكان القتال بين القبائل يحدث بين الفينة والأخرى. بينما تتصاعد أنشطة فرع “القاعدة” في اليمن في الإقليم، والهجمات الأمريكية بالطائرات الموجهة عن بُعد ،والتي غالبًا ما تقتل الناس الذين تعتقد بأنهم مسلحون.
وفي مايو، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شقيق العرادة، خالد، بسبب “التزويد بالدعم المادي والمالي” للقاعدة، وهي تهمة أنكرها عرادة، قائلًا بأنها تهمة لفقت له من قبل منافسيه السياسيين.
عرادة، القائد القبلي ذو الشخصية الفذة، والسياسي الماهر، كان قد أصبح حاكمًا عام 2012، حين بدأ التوتر السياسي يعصف بالبلاد. وبعد سنوات قليلة، هاجم الحوثيون الذين سيطروا على العاصمة صنعاء مدينة “مأرب”، وحاصروا المدينة حتى تمكن المقاتلون المحليون، والضربات الجوية من قبل السعودية وحلفائها من دفعهم للتراجع.
وقال عرادة: “كان قدر مدينة مأرب مواجهتهم، لقد حاولنا مواجهة المخاطر ،التي اتجهت نحونا بيد واليد الأخرى كانت تحاول البناء”. ومنذ ذلك الحين، وبينما توقفت محادثات إنهاء الحرب، فقد حافظ عرادة على تركيزه على الوضع المحلي.
فهو يتمتع ببعض الأفضليات، فإقليم مأرب ينتج أغلب النفط والغاز اليمني، وتحصل إدارة عرادة على 20% من العوائد، ما يسمح له بدفع الرواتب ،وتمويل مشاريع البنية التحتية.
وتشهد المدينة شوارع جديدة، وملعب كرة قدم يُقام في وسط المدينة، والذي سيحصل على طبقة عشبية مستوردة من ألمانيا، حسبما أفاد مسؤولون، ويخطط عرادة لإنشاء مطار دولي.
واقع صعب
الأمان النسبي للمدينة جذب اليمنيين المهجرين بسبب الحرب، ما أدى إلى التضخم السكاني فيها. وحيث إنه من الصعب وضع احصائيات دقيقة، لكن تقول الأمم المتحدة بأن 73 ألف شخص ممن هربوا من مناطق أخرى من اليمن استقروا في “إقليم مأرب”، بالإضافة إلى عدد السكان الأصليين ،الذي بلغ 340 ألف نسمة. رغم ذلك يقول المسؤولون هناك بأن أعداد النازحين أكبر من ذلك بكثير.
وبالرغم من أن الأوضاع الأمنية كانت تحول دون التجول بحرية تامة في المنطقة، إلا أن مجموعة الصحافيين، والباحثين ضمن الجولة، التي نظمها مكتب الحاكم، شاهدت تجمعات النازحين في مبانٍ غير مكتملة بعد، بنوافذ تمت تغطيتها بالبلاستيك والكرتون.
المواقع الأثرية المرتبطة بالملكة الأسطورية لـ “سبأ” مهملة ومليئة بالأوساخ. حيث تسببت أعمال العنف بإبعاد السيّاح عن هذه المناطق لسنوات، وليس من المرجح أن تعود الحركة السياحية في وقت قريب.
غرف دراسية من الصفيح
وبدوره قال محمد عبد الخالق أحد النازحين لمدينة “مأرب” بعد استيلاء الحوثيين على بلدته الأصلية، وهو طالب إعلام في الجامعة الحكومية في المدينة: “أصبحت مدينة مأرب ملجأ لجميع اليمنيين”.
وذكر الإداريون بأن أحداث العنف تسببت بتوقف الجامعة عن العمل، لكن أعيد افتتاحها العام الماضي بعدد طلاب بلغ 2700 طالب. الآن فيها أكثر من 5000 طالب، ما استدعى إنشاء غرف دراسية من الصفيح ؛لاستيعاب العدد الفائض من الطلبة.
وقال الطلبة ،الذين هربوا من مناطق أخرى بأنهم اندمجوا بشكل جيد مع السكان المحليين. وكان الصحافيون قد قابلوا امرأتين ترتديان العباءات السوداء، وأغطية الوجه ،وتدرسان تخصص الفيزياء.
وذكرت، رسمية مذكور، أن عائلتها هربت من “صنعاء” خوفًا من المواجهات المسلحة التي يثيرها الحوثيون. أما صديقتها شيماء محسن، وهي من السكان الأصليين لمدينة “مأرب” ،فقد قالت بأنها مندهشة من التغير ،الذي طرأ على المدينة، مطاعم جديدة، وشوارع أفضل وحديقة للأطفال.
الموت القريب
لكن الحرب لم تكن يومًا بعيدة عن المكان، ففي اليوم الذي زارت فيه المجموعة المستشفى، سقط صاروخ أطلقه الحوثيون في منطقة مفتوحة، وتسبب انفجار غير معروف المصدر بمقتل صبي صغير، في الليلة الأولى لهم، وفي هجمة افترض السكان المحليون أنها من قبل طائرة أمريكية موجهة قُتل أربعة أشخاص يُعتقد بأنهم من عناصر القاعدة.
وعلى أحد أطراف المدينة كانت “مقبرة الشهداء” في قبور من الرمال وحجارة بسيطة كشواهد لها، تمتد المقبرة على مدى الأفق تقريبًا. ولم تكن موجودة قبل عدة أعوام، لكنها الآن تحوي رفات مئات الرجال، النساء والأطفال، وفي مستشفى مأرب العام، كان أغلب المرضى من ضحايا الحرب.
وخلال ورشة عمل، قام فنيون بتكوين أطراف صناعية للمرضى المصابين بجروح من جراء الألغام الأرضية، وكان المستشفى قد استقبل الكثير من المقاتلين الجرحى بحيث ملأ الرجال جناح الأطفال.
وكان هناك ستة أشخاص مستلقين في أسرّة في غرفة واحدة، وبحسب الممرضات كان أحد الرجال الموجودين في الغرفة قد تفجرّت سيارته تمامًا خلال دخوله قاعدة عسكرية، وكان آخر يعاني من كسرٍ في ذراعه، بينما كتفه ممتلئ بثقوب من رصاصات، كما وأصيب ثالث برصاص قناص في معدته.
وفي الغرفة المجاورة كان هناك 6 رجال آخرون من ضمنهم خليل الكوال، وهو جندي يبلغ من العمر “20 عامًا” داس على لغم أرضي، وفقد قدمه اليسرى ،بينما امتلأت أطرافه الأخرى بالشظايا، وقال “سأحصل على طرف صناعي ،وأعود للجبهة”.
القبضة الأمنية والانتعاش الاقتصادي
وقال العرادة إنه عمل من أجل زيادة تنفيذ القانون لكن المشاكل لا تزال قائمة، حيث سجل نشطاء محليون تجاوزات حقوقية بحق الأفراد وحرياتهم.
وقالت سمية ،سنية وهي طالبة جامعية إن زوجها محسن العوضي تم سحبه من محله التجاري لبيع الهواتف النقالة، من قبل قوات الأمن بعد انتقاد صفحة “فيسبوك” مسجلة باسمه شخصيات سياسية محلية، وتشير أنها وابنها الرضيع لم يروه منذ ذلك الحين، وقالت: “حتى لو كان الشخص مجرمًا، لا يستطيعون سجنه بعيدًا دون إعطاء أسرته أي معلومات عنه”.
وأوضح خالد بغلان، رئيس منظمة شبابية محلية أن قوات الأمن هاجمته وزملاءه في أكتوبر، عندما احتجوا على تعيين رئيس أمني جديد للمنطقة، وأشار إلى أن أحد زملائه توفي نتيجة اصابته بعيار ناري ،بينما لا يزال ثلاثة آخرون محتجزين.
وذكر الناشط المحلي لحقوق الإنسان، صدام الأدور أن مثل هذه القضايا أقل شيوعًا من أماكن أخرى في اليمن، بيد أنه يعلم بوجود عدد من الأشخاص أكثر بقليل من 10، اعتقلوا لأسباب سياسية واضحة ،وقال: ” القضايا السياسية، لا تصل المحكمة أبدًا”.
ومع ذلك فإن صعود البلدة أدى إلى عودة مواطنين آخرين إلى ديارهم ،وسلط الضوء على إمكانيات التنمية في اليمن ،في حال توفر الحد الأدنى من الأمن.
وقال محمد زباين، وهو مدير أعمال شركة عائلية كبيرة ذات مصالح منتشرة في الخليج العربي إن أسرته نقلت أعمالها لخارج اليمن في عام 2011 عند اندلاع الاضطرابات. لكنه أشار إلى أن أسرته الآن عادت لليمن، وأطلقوا مشروعًا بقيمة 8 ملايين دولار لبناء منطقة حديثة تجمع بين العقارات التجارية والسكنية.
وأشار إلى أن العديد من المشاريع التجارية الأخرى انتعشت من جديد في المنطقة، مثل مركز تجاري بنته أسرته في عام 2006 ،لكنه فشل آنذاك، وبعد بقائه فارغًا لسنوات أصبحت محلاته التجارية البالغ عددها 104 ممتلئة، وتفكر الأسرة في بناء المزيد، مؤكدًا: ” هناك مستقبل لمراكز التسوق في مأرب.